يقول الله – عز وجل – : { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } . يقول الرسول ، صلى الله عليه وسلم : ” لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ” . متفق عليه .
لم يكن شيء أبغض إليه ، صلى الله عليه وسلم ، بعد الكفر من الاختلاف والتنازع ، ومن أجل ذلك ، قال : ” الجماعة رحمة والفرقة عذاب ” . [ رواه أحمد ] . وجعل الخلاف والنزاع هو سبب الهلاك ، فقال : ” إنما هلك بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ” . [ رواه مسلم وأحمد ] . ولقد كره سلفنا الصالح الخلاف والشقاق واعتبروه شراً لا خير فيه . قال ابن مسعود – رضي الله عنه – : ” الخلاف شر ” .
ولكن مشيئة الله – سبحانه وتعالى – قد اقتضت أن تتفاوت العقول ، وتتباين المدارك ؛ مما يؤدي إلى تعداد الآراء والاجتهادات ، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الخلاف بين البشر من سنن الله الكونية . قال – تعالى – : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } .
نود أن نشير هنا إلى أن الاختلاف الذي يقع بين الأمة منه ما يكون في أمور العقيدة والأصول ، ومنه ما يكون في مسائل الفروع والأحكام ، ولا خلاف في أنه بالنسبة للنوع الأول لابد من الإنكار على من خالف العقيدة الصحيحة ، ولابد من دحض شبهات أصحابه ، فهذه الأمور قد بينها الله ورسوله أجلى بيان ، والمخالف فيها مخالف لأمور قطعية لا تقبل النقاش والجدال . وأما النوع الثاني فهو الذي نقصده بحديثنا هنا ، ونُريد أن نبين شيئاً من الأدب الذي كان يلتزمه السلف الصالح إذا ما وقع بينهم شيء من هذا الخلاف . يقول الشيخ رشيد رضا في تقدمته لكتاب ( المغني ) لابن قدامة : ” ولما كان الاختلاف في الفهم من طبائع البشر خصّ الاختلاف المذموم بما كان عن تفرقة أو سبباً للتفرق ، وجرى على ذلك السلف الصالح فحظروا فتح باب الآراء في العقائد ، وجعلوها في الفروع ، وكان بعضهم يعذر بعضاً في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهممه ” . اهـ .
إن مثل هذه الصورة المتسامحة التي ذكرها الشيخ رشيد عن السلف الصالح ، جعلت بعض أهل العلم يحاولون أن يجعلوا اختلاف الأمة في مسائل الأحكام رحمة ، وذكروا في ذلك حديث : ” اختلاف أُمتي رحمة ” . ولما كان هذا الحديث لا أصل له كما يقول المحدثون ، فقد قال بعضهم وهو الإمام السيوطي : ” لعلّ له أصلاً ” . كان في بعض الكتب في سقط ، هذا بينما ينكر بعض العلماء ، كابن حزم أن يكون الاختلاف رحمة على أي وجه من الوجوه ، ويراه كله عذاباً ، وأيما كان الأمر فإننا نُريد أن نصل إلى قضية مهمة وهي كيف نعالج وجود هذا الخلاف ؟ وكيف نتعامل معه ؟ فتلك قضية جديرة بالبحث والدراسة ، ذلك أن الأمة قد ابتليت على مدار تاريخها بمن يسيء فهم هذه القضية .
لقد وصل الحال ببعض الحنفية المتأخرين أن يأبوا أن يزوجوا بناتهم من الشافعية أو يتزوجوا هم من نسائهم ؛ وذلك لأن الشافعية يُجوّزون أن يستثنى المرء في إيمانه ، فيقول : أنا مؤمن – إن شاء الله – ، وهذا عند الحنفية غير جائز ، ثم تساهل بعضهم فقالوا : لا بأس أن نعامل الشافعية معاملة أهل الكتاب فنتزوج نساءهم ولا نزوجهم نساءنا .
أما العامة فحدّث عن تعصبهم لأئمتهم ولا حرج ، وقد ذكر الشيخ رضا في تقدمته لكتاب ( المغني ) : ” أنه علم أن أفغانياً حنفياً كسر سبابة رجل كان يصلي إلى جواره ؛ لأنه وجده يُشير بها في التشهد ” ، ولقد كان الناس في بعض البلدان إلى عهد قريب يصلون في المسجد الواحد أربع جماعات ، لكل مذهب جماعة وإمام ، وإحقاقاً للحق فإن هذه الصورة الذّميمة قد انقرضت من كثير من بلدان المسلمين ، ومع انتشار الصحوة الإسلامية المباركة نأمل أن تزول البقية الباقية منها ، ولكن القضية الأصلية لم تنته بهد ، بل نكاد نقول : إنه يوشك أن يحل محل هذا التعصب المذهبي تعصب من نوع آخر ، ذلك أن الكثيرين من أبناء الحركة الإسلامية المعاصرة لما نبذوا التقليد المذهبي الأعمى ، فإنهم يعتبرون ما وصلوا إليه من آراء في مسائل الفقه والأحكام ، يعتبرونه الحق الذي ما بعده إلا الضّلال ، وينكرون على من خالفهم في ذلك ، وما نُريد هنا أن نسلك مسلك المغالين الذين يتّهمون هؤلاء الإخوة بأنهم يقصدون إحداث شرخ في الحركة الإسلامية ، فضلاً عن أن نتهمهم بالعمالة لأعداء الله ، كما يفعل من بعض الناس ، ولكن نريد فقط أن نوضح لإخواننا هؤلاء كيف كان السلف يختلفون .
أدب الخلاف من خلال كتاب الله :
إننا نلمح في كتاب الله – عز وجل – إشارات إلى أدب الخلاف ، فمن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – رفعا أصواتهما عند النبي ، صلى الله عليه وسلم ، حين قدم عليه ركب من بني تميم ، فأشار أحمدهما بالأقرع بن حابس ، وأشار الآخر بالقعقاع بم معد بن زرارة ، فقال أبو بكر لعمر : ما أرد إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله – تعالى – : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } . الآية . .
قال ابن الزبير : ” فما كان عمر يسمع رسوله الله ، صلى الله عليه وسلم ، يعد هذه الآية حتى يستفهمه ” . وهذا النص يوضّح لنا كيف نختلف في الرأي ومع ذلك لا يعتدي بعضنا على بعض ، ولا ترتفع أصواتنا عند الخلاف . ومن ذلك قوله – تعالى – : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله . . } . الآية . .
وكانوا قد اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم وترك آخرون ، فجاء القرآن مُقراً لكليهما غير مُعنف لأي منهما . ومن ذلك قوله – تعالى – : { وداود وسليمان إذ يحكمان الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين . ففهّمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً . . } الآية . . فخص سليمان بالفهم ، وأثنى عليهما بالحكم والعلم ، ومن هذين النصين نستخلص : أن القرآن الكريم يذكر طائفتين اختلفا ، ومع ذلك لا يذمّ واحدة منهما ؛ ليعلّمنا أنه في مثل هذه الأمور ينبغي أن يقرّ بعضنا بعضاً . وفي قصة سليمان وداود ما يشير – والله أعلم – إلى أن الرأيين ليسا متساويين ، بل حكم سليمان أصوب ؛ لأنه خص بالفهم ، ومع ذلك أثنى عليهما جميعاً بالحكم والعلم .
أدب الخلاف في السنة النبوية :
وقد نجد في سنة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ما يعلّمنا أدب الخلاف – أيضاً – ، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال يوم الأحزاب : ” لا يُصلين أحدكم العصر إلا في بني قريضة ” . فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال : لا نصلي حتى نأتيها ، أي ديار بني قرضية ، وقال بعضهم : بل نصلي . لم يُرد منا ذلك ، ذكر ذلك للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنف واحداً منهما .
فها هنا فريقان فريق تمسك بظاهر النص فأبى أن يصلي إلا في بني قريظة ، حتى لو خرج وقت الصلاة ، وفريق استنبط من النص معنى خصّصَه به ، ففهموا أن المقصود هو الإسراع فصلوا في الطريق وأسرعوا ، ومع ذلك لم يعنف رسول الله أياً منهما ، وقد ذكر ابن القيم – يرحمه الله – في زاد المعاد : أن كلاًّ من الفريقين مأجور بقصده ، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين : امتثال الأمر في الإسراع ، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت . . إنما لم يعنف الذين أخروها ؛ لقيام عذرهم للتمسك بظاهر الأمر ، ولأنهم اجتهدوا . . لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من الطائفة الأخرى . ونود التركيز هنا على كون إحدى الطائفتين أصوب من الأخرى ، لأن معنى ذلك أن ترك الإنكار لا يكون فقط ، إذا كان القولان متساويين ، بل حتى لو كنت ترى قولك أصوب من الآخر . ومن ذلك قوله ، صلى الله عليه وسلم ، يُنبههم إلى ترك القراءة إذا ما حدث خلاف في بعض أحرف القراءة ، أو فهم بعض المعاني حتى لا تختلف القلوب ، ويحدث الشقاق والنزاع .
فأي بيان لمراعاة أدب الخلاف أفضل من هذا ؟
كيف نختلف :
في ضوء ما سبق يمكننا أن نستخلص بعض الآداب التي يجب أن نتحلى بها عند الخلاف .
أولاً : بداية ينبغي على المسلمين أن يحاولوا أن لا يختلفوا ما أمكنهم ذلك ، لأن الخلاف شرّ والفرقة عذاب .
ثانياً : فإذا ما وقع الخلاف فإن القاعدة في ذلك هي قوله – تعالى – : { وما اختلفتم من شيء فحكمه إلى الله } . فلا بدّ من الردّ إلى كتاب الله وسنة رسوله .
ثالثاً : فإن حدث نتيجة اختلاف الأفهام أن بقي خلاف بعد ذلك ، فإن الخلاف في مسائل الفروع لا يُوجد فرقة ولا شقاقاً !! ويمكننا أن نستخلص من سيرة السلف الصالح ما يلي :
1- أنهم كانوا يختلفون ومع ذلك كانوا متحابين متآخين ، فعلى سبيل المثال اختلف أبو بكر وعمر في مسائل مثل سبي المرتدين ، وقسمة الأراضي المفتوحة ، والمفاضلة في العطاء ، ومع ذلك لم يكن بينهما إلا الود والمحبة ، وحينما استخلف أبو بكر عمر وأخذ بعض الناس يخوفونه بالله ، وأنه ولى عليهم فظاً غليظاً ، ويقولون له : ماذا تقول لربك غداً فيقول – رضي الله عنه – ” أقول اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك ” .
2- كان يُقر بعضهم بعضاً ، ولا يُنكر بعضهم على بعض . يقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية بعد كلام له حول هذا الموضوع : ” فإن – يرحمهم الله – أقر بعضهم بعضاً ، ولم يبغ بعضهم على بعض ، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد ، فيقر بعضهم بعضاً ، ولا يعتدي عليه ، وإن لم يرحموا ، وقع بينهم خلاف مذموم فيبغي بغضهم على بعض إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل مثل حبسه وقتله .
3- أنهم كان يعذر بعضهم بعضاً في هذه المسائل ، ويقول : لعل له تأويلاً في المسألة ، أو لعلّ الحديث لم يصله ، ولذلك يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في ( رفع الملام ) : ” أننا إن وجدنا لواحد من الأئمة المقبولين قولاً يُخالف حديثاً صحيحاً فلابدّ له من عذر في تركه ” . ويقول : ” إن جميع الأعذار ثلاثة :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي قاله .
الثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
صور مضيئة من أدب الخلاف عند السلف :
وإليك – أخي القارئ – بعض الأمثلة التطبيقية من سيرة علمائنا الأجلاء ؛ لتعرف كيف كان السلف يختلفون :
(أ) لما كتب الإمام مالك الموطأ أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس جميعاً عليه ، فأبى مالك – يرحمه الله – فقال : يا أمير المؤمنين أن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار ، ومع كل منهم علم ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم .
(ب) وكان الإمام أحمد يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء ، ولكنه سئل : أتصلي خلف رجل احتجم ولم يتوضأ ؟ قال : سبحان الله ! كيف لا أصلي خلف مالك ابن أنس وسعيد بن المسيب .
(ج) وورد عن الشافعي – يرحمه الله – أنه صلى مع جماعة من الأحناف في مكان قرب قبر أبي حنيفة فترك القنوت في صلاة الصبح مع أنه سنة مؤكدة عنده .
(د) وصلى أبو يوسف خلف هارون الرشيد ، وقد احتجم ، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء ، فصلى خلفه أبو يوسف ، ولم يعد الصلاة مع أن مذهبه أي أبي يوسف أن الحجامة تنقض الوضوء .
وبعد :
فإننا ننبه إلى أن دعوتنا إلى التحلي بأدب الخلاف في الإسلام لا تعني أن نتساهل في أمر العقيدة ، أو أن نلتقي مع بعض الفرق الضالة ! بل نحن نقصد فقط أن يتراحم أهل السنة فيما بينهم ، وأن يعلموا أن التحديات الخطيرة التي تقابلها الأمة الإسلامية تحتم عليها أن ترتفع إلى مستوى المسئولية ، فإن تلك التحديات لا تترك للمخطئين وقتاً يختلفون فيه على مسائل قد اختلف فيها السلف من قديم ، فليسعنا ما وسعهم ، إن كنا حقا متبعين لهم .
[من اوراق مجلة المرابطون / بيشاور]