دور الحركة الإسلامية أصلاً هو ليس التصالح مع الواقع القائم ولا الانقياد له ولا حتى الالتقاء معه في وسط الطريق، بل دوره هو تغيير هذا الواقع القائم من أساسه وإزالته بقضه وقضيضه، لأن هذا الواقع جاهلي ومناقض تماماً للواقع الإسلامي المنشود، لأن الله سبحانه يقول: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}.
فالمسلمون يتحركون في هذه الحياة في سبيل الله بينما غيرهم يتحركون في سبيل الطاغوت وهو الرمز الممثل للجاهلية. {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} وعليه فإن أي احتمال للالتقاء مع هذا المشروع الطاغوتي في وسط الطريق غير وارد، وسيظل كل طرف في جهته يقاوم ويصارع من أجل البقاء ومن أجل فرض نفسه ومبادئه على المحيط الذي يتحرك فيه، ولكن هناك ثمة فرق جوهري بين المشروعين سالفي الذكر، فالمشروع الإسلامي مثلاً يهدف إلى تحرير الإنسان ثم تركه بعد ذلك يختار لنفسه الجهة التي يرغب الانتماء إليها، أو بعبارة أدق يترك له اختيار الجبهة التي سيجاهد فيها لتجسيد ما يؤمن به.
وأما المشروع الطاغوتي فإنه يُبقي على الإنسان عبداً لهواه وعبداً للعباد، ويواري عنه كل الحقائق والمعطيات التي من شأنها أن تحرره.
من بين الأسباب التي تجعل الحركة الإسلامية تخضع أو تنقاد للواقع القائم، يمكننا تسجيل ما يلي:
-
ضعف الرؤية الإيمانية لمفهوم الصراع بين الحق والباطل، حينما يستعلي الباطل وتكون له الغلبة الظاهرية، ثم بسبب غياب الرؤية المستقبلية وضعف الإيمان بالوعد الإلهي بالنصر والغلبة لأصحاب الحق، وبأن الحرب سجال: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا، إنهم لا يعجزون} بحيث أن غلبة الباطل في جولة معينة لا يعني أن هذه الغلبة مطلقة ودائمة أو بأن الحق لن يستطيع مقاومته وعليه بالتالي أن يخضع ويستسلم، كلا بل على أصحاب الحق أن يستعيدوا ثقتهم في ربهم ثم في أنفسهم ثم يستعدوا للجولة القادمة، وهذا ما يُلمّح إليه قوله تعالى بعد ذلك: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}.
-
الهروب من القروح ومن الطرق الشائكة من أجل تحقيق النصر، وهذا الأمر يدعو أو يدفع الحركة الإسلامية إلى البحث عن الوسائل السهلة والناعمة حتى وإن أدى بها إلى الوقوع في أحضان القوى الطاغوتية ومسايرتها وفق الشروط التي تفرضها وتقترحها هي.
-
التشوق إلى تحقيق النصر والتمكين بأي الوسائل الممكنة وفي أسرع الآجال، ولا شك أن نشوة النصر تفقد الإنسان الكثير من الاتزان وتغيّب عنه تلك المقاييس الإيمانية التي يزن بها الأمور، فتختلط عليه الأمور لتصبح الأهداف وسائل والوسائل أهدافاً، أو بعبارة العصر يصبح الاستراتيجي والتكتيكي شيئاً واحداً.
-
خلق بعض الخصوم المصطنعة من أجل عرقلة المسيرة الإسلامية الصحيحة وتحريفها عن اتجاهها الأصيل، فتصبح المعركة الكبرى مع هذه الفئات المصطنعة، وتُنسى المعركة المصيرية والجوهرية مع القوى الطاغوتية، التي تتحول في هذه الحالة إلى حكم يُحتكم إليه، ويعترف له الجميع بالشرعية. في الوقت الذي كان من المفروض على الحركة الإسلامية أن تكون واعية وتتسلح بمجموعة رؤى وتصورات نراها ضرورية من أجل الثبات والحفاظ على المبادئ:
-
أن تعرف أن طريق النصر، طريق طويل وشائك، ومليء بالقروح والجروح، وعليه فإن الاستمرارية فيه هو عين الصواب، وبأن هذه التضحيات هي الثمن الطبيعي للنصر المرتقب، وذلك كما في قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، إلا إن نصر الله قريب}، وقد سأل رجل الشافعي رضي الله عنه: أيهما أفضل للرجل: أن يُمكّن أو يبتلى؟ قال الشافعي: لا يُمكّن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة. وارتباط النصر والتمكين بالبلاء إنما هو يكون تحقيقاً لصلاحية أهل الحق في مهمة دفع الباطل سواء كان بتكفير ذنوبهم أو برفع درجاتهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ” أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل” باعتبار أن الأنبياء والأمثل فالأمثل هم القائمون بدفع الباطل وأهله.
يقول ابن القيم في هذا المجال كلمة جامعة بليغة تكاد تكون ملخصاً لكل ما سبق قوله في هذا الباب: “إن أول الأمر ابتلاء وامتحان ووسطه صبر وتوكل وآخره هداية ونصر”. نجد هذا في قوله تعالى بالترتيب: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} وفي ضرورة الصبر والتوكل يقول تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}، وقوله: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، وقوله: {الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس}، وأما في حتمية النصر والتمكين لأهل الحق فيقول عز من قائل: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز} ويقول: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} وقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}. -
ويجب أن نفرق بين واجب إثبات العداء لجميع أطراف الجاهلية وبين إمكانية المواجهة العملية لأحد هذه الأطراف، فنحن نعادي جميع الأعداء تصوراً واعتقاداً، ولكننا نواجه ونقاتل في حدود إمكانياتنا العملية، فنختار في تلك الحدود أنسب اتجاهات العداء وأطرافه، وقد يتغير هذا الاتجاه حسب الظروف والأحوال ولكنه دائماً هو الاتجاه الذي يمثل الخطر الأول على هذه الدعوة وهو تفسير قوله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} التوبة 123، يعني الذين يمثلون أقرب خطر عليكم، وبذلك يتحقق التوازن العسكري في الدفع بين الإسلام والجاهلية ” ( قدر الدعوة – رفاعي سرور).
فالثبات على هذا الدين وعلى مبادئه يعتبر سنة من سنن الإيمان وبها استدل هرقل الروم على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سأل أبا سفيان قائلاً : “أيرتد أحدهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فأجاب أن لا، قال: كذلك الإيمان حينما يخالط بشاشة القلوب”.
فضغوط الواقع يجب أن تُقابل بإرادة قوية من قبل التجمع الإسلامي المبدئي، ويمكن التغلب عليها باستحضار سمو ونبل أهدافنا، والقيمة الكبرى للمعركة التي نخوضها مع هذا الواقع لتغييره لكي يكون تابعاً لا متبوعاً ، وهي سنة الأنبياء والمرسلين من قبلنا، جاءوا ليغيروا واقعهم من أساسه وليس من أجل التصالح معه والرضوخ له.
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلاً من غفور رحيم}.
بقلم أبي سعد العاملي