الرئيسية / الحركة الإسلامية المعاصرة / الحركة الاسلامية بين النظرية والتطبيق

الحركة الاسلامية بين النظرية والتطبيق

قال تعالى { وقل اعملوا فسيرى اللهُ عَمَلَكم ورسولُه والمؤمنون }، وقال أيضاً { إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربُّهم بإيمانهم }.

 

النظرية هو الجانب الجامد لفكرة أو مبدأ أو معتقد معين، وهي تظل دون شك بلا قيمة ما لم تترجم إلى فعل وإلى حركة في الواقع، وبالتحديد في الواقع المناسب الذي يراعي الظروف الموضوعية المناسبة لبلورة هذه النظرية لكي تعطي الثمار والنتائج المرجوة. وهذا هو دور ” الحركية ” وهو الوجه الآخر أو الجانب المتحرك للفظة ” النظرية “.

 

والقرآن الكريم يدعو المسلمين إلى تحقيق الإثنين معاً، إنه يدعو إلى اكتساب المعرفة ( النظرية ) ثم العمل بهذه المعرفة ( الحركية )، { الذين آمنوا وعملوا الصالحات }، { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }، فنحن نلاحظ ربطاً عميقاً وقوياً بين هذين المصطلحين في القرآن الكريم وكذا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كانت نظرية حركية بل في أغلب الأحيان حركية نظرية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ثم يقول وليس العكس، كما كان ترجمة عملية للقرآن الكريم كما وصفت ذلك أمنا عائشة رضي الله عنها حينما سُـئلت عن خُلق رسول الله فقالت : ” كان خلقه القرآن “.(الحديث)

 

وهكذا نجد هذا الترابط في هذا الدين حاضراً في كل مراحل نشأته، فهو الذي مكّن له أن يترجم إلى نظام شامل حي ومتحرك، هكذا كان شأن الحركة الإسلامية الأولى بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام، وشأن الخلافة الراشدة من بعده، ثم شأن السلف الصالح حتى القرن الثالث أو الرابع الهجري حسب الحديث الصحيح : ” خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم “.

أما حينما تفكك هذا الربط بين الحركية والنظرية، فقد انهارت الأمة الإسلامية كنتيجة حتمية مباشرة، إذ أنه ما إن بدأ المسلمون وعلى رأسهم أولي الأمر يهملون ويعمقون الهوة بين نظرية هذا الدين وحركيته إلا وبدأ هذا الدين يفقد نصاعته وقوته الفاعلة في واقع الناس. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ” ستسقط عرى الإسلام عروة عروة، أولها الحكم وآخرها الصلاة “، وهذا لا يعني أن الناس سيحذفون من القاموس النظري محتويات الشريعة، بل سيسقط فقط الجانب الحركي وهو التطبيق الفعلي لهذه البنود، ومن هنا نلاحظ أن معنى الحديث يعني غياب ذلك الترابط بين المصطلحين سالفي الذكر.

 

ولقد ظلت الأمة الإسلامية على هذه الحالة، تبتعد شيئاً فشيئاً عن ذلك النموذج المثالي ( الجماعة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ) وعرفت بعض الحالات أو الفترات المشرقة، نجحت في إعادة ذلك الربط بين ما هو نظري وحركي، فاستطاعت بالتالي دفع مطامع الأعداء واكتسبت هيبة الأمس الأول، ولكن سرعان ما رجعت الأمور إلى سابق عهدها، بحيث طغى الجانب النظري في حياة هذه الأمة وكانت الثغرة الرئيسية والهفوة الواسعة التي نفذ منها العدو ليحقق مآربه وأهدافه بينما الأمة المسكينة غارقة في سباتها لا تملك إلا التفرج ولا تستطيع أن تحرك ساكناً، فكان ما كان من تقسيم جغرافي إلى دويلات متناثرة متناحرة، كما كانت قبل الإسلام مجرد قبائل تعشق الحرب لأتفه الأسباب أو بالتعبير القرآني { بأسهم بينهم شديد }.

 

ثم جاءت الحركات الإسلامية المعاصرة لتجد إرثاً موبوءاً وواقعاً متأزماً يحمل من الأمراض والأزمات ما يشيب لها الولدان، ولكنها أدركت منذ البدء أن المرض الأساس هو ما أسماه الشهيد سيد قطب بـ ” الفصام النكد ” وهو فك الارتباط بين النظرية والحركية في هذا الدين. لقد وجدت شعوباً مسلمة في الظاهر، وكذلك حكومات تسمي نفسها ودساتيرها بالإسلامية، وهي أبعد ما تكون عن التطبيق الحقيقي لهذا الدين الذي تنتسب إليه زوراً وبهتاناً.

فسخر الله رجلاً أعاد للإسلام مفهومه الصحيح، ذلك هو الشهيد ونحسبه كذلك سيد قطب رحمه الله. لقد تمكن الرجل من صياغة فكر جديد وأصيل، يربط ربطاً قوياً بين مبادئ هذا الدين النظرية وبين حركيته، وخلص في الأخير إلى أن هذا الدين لن يكون له أي مفهوم واقعي إلا إذا تحقق ذلك الربط أو ذلك العقد المتين بين النظرية والحركية، وعلى هذا الأساس قامت طلائع إسلامية شابة تخوض الصراع مع قوى الكفر والضلال، وتبلور هذه الأفكار الجديدة في قوالب حركية تتفاعل مع متطلبات العصر وتضع في عين الإعتبار ضرورة إزالة العراقيل كل العراقيل التي تقف في وجه المد الإسلامي الأصيل وفي مقدمتها الحكومات الكافرة أو بالتعبير القرآني ” أئمة الكفر ” وأصبحت هذه القضية هي المعيار أو المقياس الذي يقاس به مدى أو عدم متانة الربط النظري الحركي، ومن ثم مدى فاعلية هذا الدين في واقع الناس.

 

يقول سيد في هذا المجال : (( ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية مجردة ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو، فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية وردّ الناس إلى الله مرة أخرى لا يجوز ولا يجدي شيئاً أن تمثل في نظرية مجردة، فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي فضلاً عن أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته، بل لابد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النطرية والتنظيمية وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً )).

 

أما عن أولئك الذين يظلون عناصر سلبية أو نظرية بحتة في هذا المجتمع ويفتخرون بإسلامهم المحرّف ويحسبون أنهم على شيء، فيقول : (( الإسلام كما قلنا لم يكن يملك أن يتمثل في نظرية مجردة، ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً، فإن وجودهم على هذا النحو مهما كثر عددهم لا يمكن أن يؤدي إلى ” وجود فعلي ” للإسلام لأن الأفراد المسلمين ” نظرياً ” الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للإستجابة لمطالب هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه، وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه، لأن الكيان العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا أي أن الأفراد المسلمين “نظرياً ” سيظلون يقومون ” فعلاً ” بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون ” نظرياً ” لإزالته، وسيظلون خلايا حية في كيان تمده بعناصر البقاء والامتداد، وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيى ويقوى وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي لإقامة المجتمع الإسلامي )) اهـ.

وعلى ضوء هذه النظرية الجديدة والفريدة وهي القاعدة الأصلية الواضحة المعالم، يجب على الحركة الإسلامية أن تبني برامجها منذ اللحظة الأولى إن كانت تريد بالفعل تجسيد الإسلام في حركتها وواقعها ومن ثم فرضه وإعادته إلى حيز التنفيذ في واقع الناس عليها الدخول في ساحة المعركة، أما أنها ترفع شعارات مجرد شعارات التغيير والثورة على هذه الجاهلية القائمة، ثم تناقض ذلك بأعمالها السلبية الخالية من أي حركة ومن أي تطبيق فعلي ملموس، فهذا لن يؤدي بها إلا إلى الاندثار والانطفاء البطيء، وستكون بفعلها هذا قد وجهت ضربة قاضية للعمل الإسلامي لأنها لم تستطع تمثيل الإسلام على وجهه الصحيح، وولت الدبر للعدو في المعركة.

 

إنّ العمل الإسلامي المسؤول نظرية تتبعها حركة تجسد بها تعاليم هذا الدين، وتصرخ بها في وجه الكفر والطغيان الذي طغى على واقع الناس، وحينما تتجسد هذه الحركية في تجمع إسلامي، فإنها البداية الصحيحة دون شك على طريق التغيير، وستكون الخطوة الأولى التي تبشر بنصر وتمكين أكيدين { نصر من الله وفتح قريب }. وإلا فسوف تبقى هذه الحركة، أو هؤلاء الأفراد المبعثرون، يغذون المجتمع الجاهلي بكل عوامل البقاء والقوة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

 

والخاسر الوحيد هم هؤلاء الذين ينادون ليل نهار { ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً }، سيظلون يعانون القهر والاستعباد تحت نير الجبروت الفرعوني، إلى أن يأتي موسى العصر.

 

فمتى نفقه هذه اللعبة ؟ ومتى بالتالي ننطلق بذلك المفهوم الصحيح وهو ضرورة ربط النظرية بالحركية؟، { هذا بلاغ للناس ولينذروا به، وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب }.

 

عن المحرر

شاهد أيضاً

من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية ( الحلقة الثامنة)

من خطوات التأسيس الأولى للحركة الإسلامية المغربية ( الحلقة الثامنة)  فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *