ناصر يحيى*
منذ مطلع الثمانينيات، صار الأديب اليمني الأصل علي أحمد باكثير زادا لا ينضب للباحثين اليمنيين والعرب على حد سواء، في ما يمكن وصفه بأنه رد اعتبار لهذا الأديب الكبير الذي أغنى بأدبه متنوع الاهتمامات (رواية ومسرحا وشعرا) دوحة الأدب العربي في القرن العشرين الميلادي.
ولولا مماحكات السياسة وألاعيب النقد الأيديولوجي لما جاز أن يكون أديب بعطائه الخصب العميق في أبعاده الفكرية وإبداعاته الفنية من ضمن المجاهيل العرب المظلومين.
ومع تعدد الدراسات التي حاولت منح باكثير حقه من الثناء، ما يزال هناك الكثير من مواطن الإبداع “الباكثيري” بحاجة إلى جهود الباحثين، ويبرز في هذا المجال جهود اليمنيين د.محمد أبو بكر حميد ود. أبو بكر البابكري.
فالأول اهتم بنشر تراث باكثير الذي لم ير النور في حياته، والآخر خصص دارساته في الماجستير والدكتوراه لأدب باكثير الروائي والمسرحي، وكان أبرز ما نجحا في تقديمه هو البعد الإسلامي الناضج فكريا وفنيا، والذي ينأى به عن الخطابية والتقليدية التي تسقط فيه الأعمال الأدبية الملتزمة عقائديا، حتى يمكن القول إن اكتشاف البعد الإسلامي -بما فيه البعد الحركي- ليس بالأمر اليسير للقارئ العابر.
جذور إسلامية
تنقلت حياة باكثير بين إندونيسيا حيث ولد لأبوين يمنيين من حضرموت، ثم نشأ في حضرموت وعدن ومصر في بيئة ملتزمة دينيا، ومعجبة برسالة الإسلام العربية، وهو كان أحد الشباب الذين عملوا في نوادي الإصلاح الإسلامي العربي في عدن.
باكثير كان أنموذجا للأديب الملتزم بالرؤية الإسلامية للكون والحياة والوجود دون ضوضاء ولا افتعال، وأبدع عشرات الأعمال الروائية والمسرحية والشعرية التي ضمنها رؤيته تلك في تفسير حوادث التاريخ المعاصر |
وعندما انتقل إلى مصر تعرّف على المفكر الإسلامي محب الدين الخطيب وريث المصلح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، التي نشر فيها باكثير عددا من أعماله الشعرية، وفي ما بعد صار من كبار كتاب جريدة “الإخوان المسلمون” عند صدورها عام 1946 حتى توقفها عام 1948، وفيها نشر أبرز أعماله المسرحية السياسية (قرابة سبعين مسرحية)، وارتبط بعلاقة قوية بالأستاذين: حسن البنا وسيد قطب، وبجماعة الإخوان بالضرورة.
وفي تلك المرحلة وحتى وفاته عام 1969، كان باكثير أنموذجا للأديب الملتزم بالرؤية الإسلامية للكون والحياة والوجود دون ضوضاء ولا افتعال، وأبدع عشرات الأعمال الروائية والمسرحية والشعرية التي ضمنها رؤيته تلك في تفسير حوادث التاريخ المعاصر من وحي التاريخ القديم وفهمه حقائق الصراع الأبدي بين الخير والشر، والإيمان بطهارة السماء وما نزل منها من وحي ورسالات في قوالب فنية مبدعة نالت استحسان الجمهور حينما عرضت في المسارح المصرية.
الأسلمة الذكية
كان أول أعماله في ثلاثينيات القرن العشرين -التي تؤكد الأساس الإسلامي لمنطلقاته- ترجمة مسرحية “روميو وجوليت”، وفيها كان رائدا في ابتكار الشعر المرسل الذي كتب بها المسرحية ردا على أستاذ إنجليزي عاب على اللغة العربية عدم قدرتها عل استيعاب هذا النوع من الشعر.
وفي الفترة نفسها، كتب مسرحية “أخناتون ونفرتيتي” في أجواء الصراع الفكري الذي كان مستعرا يومها بين التيار العروبي الإسلامي من جهة والتيار الفرعوني من جهة أخرى، وفي المسرحية قدم باكثير شخصية “أخناتون” كمصلح ديني من الموحدين لله رب العالمين، وصدر المسرحية بالآية القرآنية “ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك”، كخيط ضوء يكشف به عن روح العمل الأدبي، وهو ما صار تقليدا في كل أعماله.
باكثير كشف في كتابه “فن المسرحية من خلال تجاربي” أن مسرحية “مأساة أوديب” أراد بها تجسيد مأساة الشعب الفلسطيني التي دفع لها دفعا من قبل أرباب الصهيونية ونبوءاتهم الكاذبة عن الأرض التي وُعد بها اليهود كما حدث مع أوديب |
وصار أخناتون عند باكثير علامة تواصل بين الحضارة الفرعونية وحضارات الشرق الأخرى بما يؤكد وحدة شعوب المنطقة، كما بدأ أيضا في البيت الشعر الذي ألفه خصيصا: “أبوكم أبي يوم التفاخر يعرب وجدكم فرعون أضحى بكم جدي”.
لكن أبرز جهود باكثير فيما يمكن وصفه “بأسلمة” روائع الأدب العالمي هو مسرحياته الثلاث: “مأساة أوديب”، و”سر شهرزاد”، و”فاوست الجديد”.
ففي “سر شهرزاد” قدم تفسيرا جديدا لعقدة الملك الذي كان يتزوج كل ليلة فتاة عذراء ثم يقتلها في الصباح انتقاما من زوجته التي خانته مع عبده الأسود، حيث يبرئ المرأة من الخيانة، ويجعل السبب في عقدة الملك هو فشله في إقامة علاقة مع زوجاته مما يضطره لقتلهنّ، لكن شهرزاد باكثير نجحت في اكتشاف عقدة الملك هذه، وعملت بذكاء وصبر على علاجه منها من خلال الحكايات الليلية المثيرة حتى شفي ونجح في زواجه منها.
وفي “فاوست الجديد”، أعاد تقديم هذا العمل الأدبي الشهير عن بيع الإنسان روحه للشيطان مقابل أن يساعده على التمتع بكل ما يريد من الشهوات الحرام برؤية إسلامية متماهية مع زمن التأليف (الستينيات) ترفض إتمام العقد لما وجد فاوست العالم المخترع أن الشيطان يريد في مقابل تسهيل تمتعه بالشهوات الدنيئة أن يمنعه من تسخير علمه لمصلحة الفقراء، وفي المقابل يستغل اكتشافاته العلمية لخدمة الدولتين الكبيرتين في الحصول على ابتكاراته لاستخدامها في مجال التسليح والإضرار بالحضارة البشرية مما يضطره لإحراقها.
وفي الأخير، يتمرد فاوست على الشيطان ويرفض الالتزام بالعقد معه بعد أن يعود إلى طلب العلم من الله وحده، ويتوب عن جرائمه بحق النساء. وللدلالة على فكرة المسرحية اختار لها الآية القرآنية “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”.
أما في مسرحية “مأساة أوديب”، فيرفض باكثير مسارها المعروف عالميا الذي يجعل البشر محكومين أو مسيرين غير مخيرين في اختيار مصائرهم، ويجعل نبوءة الكاهن الدجال التي تنبأت بأن ملك طيبة ينجب ولدا يقتله في المستقبل ويتزوج أمه مجرد حيلة ومكيدة دبرها الكاهن لمصلحة الملك المنافس، ويجعل باكثير كل الأحداث التي سوقها الكاهن على أنها من وحي الآلهة من كيده مقابل الحصول على أموال حرام والتمتع بأموال المعبد.
ويجعل باكثير خاتمة المسرحية مخالفة لما هو معروف، أي أن يفقأ أوديب عينيه بعد أن اكتشف أنه قتل أباه وتزوج أمه، ويعيد صياغتها وفقا للرؤية الإسلامية التي تفتح أبواب التوبة للإنسان مهما عمل من سوء، ناهيكم أن يكون قد تعرض لمكيدة جرجرته للخطيئة دون علم وتعمد منه.
وكعادته، يتخذ باكثير مفتاحا للمسرحية الآية القرآنية: “ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون”.
ويكشف باكثير في كتابه “فن المسرحية من خلال تجاربي” أن مسرحية “مأساة أوديب” أراد بها تجسيد مأساة الشعب الفلسطيني التي دفع لها دفعا من قبل أرباب الصهيونية ونبوءاتهم الكاذبة عن الأرض التي وُعد بها اليهود كما حدث مع أوديب الذي دفع دفعا لتحقيق نبوءة الكاهن المزورة.
______________
* كاتب صحفي يمني
المصدر قناة الجزيرة