بقلم : أ. د. عماد الدين خليل
ـ المقدمة ـ
يثير الحديث عن المضمون الفكري للأدب الإسلامي المعاصر جملة من القضايا والإشكاليات التي يصعب التعامل معها منعزلة عن بعضها بسبب ارتباطها الوثيق. فهناك ظاهرة ( المذهب الأدبي ) الذي يعكس رؤية أو تصوراً فكرياً ، وهناك قضية ( الالتزام ) المتجذرة في الرؤية الفكرية ، وهناك ثنائية الحداثة والتراث وانعكاساتها الفكرية وما تتطلبه من توازن وإلا جاء ذلك على حساب العمل الأدبي ، وهناك ـ فضلاً عن هذا وذاك ـ مسألة
( المنهج ) ومنطلقاته الفكرية ، وصولاً إلى إشكالية الأديب والفقيه وما تنطوي عليه من خلفيات فكرية.
سيتابع البحث ـ وبالإيجاز المطلوب ـ المحاور الأساسية لقضية المضمون هذه لكي يخلص في نهاية الأمر إلى مطالب أسلمة الأدب أو التأصيل الإسلامي للأدب والذي يأتي في سياق إعادة صياغة وبناء المعطيات المعرفية الإنسانية من زاوية المنظور الإسلامي للكون والحياة والوجود والمصير.
1 ـ المذهب والمضمون الفكري
من المعروف أن المذاهب الأدبية كافة ( فيما عدا البرناسية بطبيعة الحال ) تحمل وتبشّر بمنظومة من القيم التصوّرية ، كل وفق الشبكة التي تؤسس لذلك المذهب. وإذا كان الأمر غائماً بعض الشيء في الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة وربما الرومانسية ، فانه واضح تماماً في الواقعية والواقعية الاشتراكية والرمزية والوجودية ، والمذاهب التالية كالسريالية والعبثية ( الطليعية ) ، وتيارات الحداثة المتدفقة التي يضرب بعضها بعضاً ولا يزال.
في حالة كهذه ألا يحق للأدب الإسلامي أن ينطوي على مضمونه الفكري بما أنه ينبثق عن العقيدة الأوسع فضاء ، والأغنى خبرات ، والأغزر مفردات وعطاء باعتبارها إضاءة متفردة يلتقي فيها الوحي بالوجود وتتلقى تعاليمها من الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وتفتح جناحيها على الإنسان والعالم والكون والمصير ؟
ان الخبرة الإسلامية في أعمق مجاريها الإيمانية خفاء ، وأكثر تجلياتها الفكرية إشراقاً ، تضع بين يدي الأديب والفنان ثروة هائلة من المفردات ، وشبكة عريضة من التجارب والرؤى والتأسيسات التي يمكن للأديب أن يستمد منها مدماكه في هذا الجنس الأدبي أو ذاك.
وأن المساحات التي تنسج فيها المضامين الفكرية للمذاهب الأدبية كافة لتتضاءل أمام الفضاء الواسع ، والسماء الكبيرة والمفتوحة للمعطى الرؤيوي الإسلامي الذي لا حدود لشواطئه.
إن المرء ليتذكر هنا عنوان كتاب للمفكر الفرنسي ( رجاء غارودي ) ( واقعية بلا ضفاف )([1]) ، وان المضمون الفكري للأدب الإسلامي الذي يتعامل مع الواقع ولا ينفصل عن همومه وقضاياه بحكم ضرورات الالتزام ، لا يأسره الواقع الضيّق الذي تعارف عليه الناس ، ولكنه ينطلق إلى فضاءات الخبرة والرؤية اللتين لا أوّل لهما ولا انتهاء.
إن الخصوصية الإسلامية التي هي وليدة الزمن والمكان ، والتي ينسجها لقاء العقيدة بالإنسان في هذه البيئة ( المحلية ) أو تلك ، لا تتعارض مطلقاً مع التوجّه ( العالمي ) أو الإنساني ، خارج قيود الزمن والمكان والبيئة والتاريخ ، لأن الإسلام ، في الوقت نفسه ، توجه أبدي صوب الإنسان في كل زمان ومكان ، ولأن من أهدافه أن يصنع عالماً سعيداً لبني آدم جميعاً ، وأن يعينهم على تجاوز متاعبهم وآلامهم ، وإزالة الجدران والمتاريس التي تقف في دروبهم صوب أهدافهم المشروعة.
بل إن الإسلام ، برؤيته الكونية ، واستشرافه بعيد الآفاق ، ونزوعه الشمولي ، وتوازن الثنائيات في نسيجه : بين ما هو منظور وغيبي ، وطبيعي وميتافيزيقي ، ومادي وروحي ، وثابت ومتغير ، ومحدود ومطلق ، وفانٍ وخالد .. الإسلام بهذا كله أقدر ، إذا تهيأت له الأدوات الفنية المتمرسة والخبرة العميقة ، على إيداع أدب عالمي يهمّ الإنسان في اطار المعمورة ويمكن أن يفرض ترجمته إلى كل لغة حية.
ولكن ، وكما تؤكد القاعدة النقدية المعروفة ، فان العمل الأدبي الكبير لا يحقق عالميته وانتشاره إلا من خلال أصالته وخصوصيته ، أي من خلال تحركه من الخاص المحدّد إلى العام المفتوح ، كي لا يغدو عملاً تجريدياً ، وكي يكسب ملامحه وتكوينه الحيوي ، ونسيجه ذا اللحم والدم والملامح المتفردة.
إن إحدى وظائف الأدب الإسلامي ، بل وظيفته الأم ، إلى جانب وظائفه السياسية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والتربوية ، هي الوظيفة العقدية التي تستهدف إيصال الخطاب الإسلامي إلى المتلّقي بأكبر قدر من التأثير .. إن الأديب ها هنا يحمل سلاح الكلمة لكي يقف في صف الدعاة .. واحداً من أكثرهم قدرة على الفاعلية والكسب والامتداد .. إنه يقوم بتوصيل رؤية الإسلام للكون والحياة والعالم والإنسان ، لا بمفاهيم تجريدية ، وأفكار صارمة ، ومقولات قاطعة كالسكين ، ولكن بالصورة المشخصة ، والتجربة المعيشة ، والخبرة التي يجري الدم في خلاياها وشرايينها فيبعث فيها الحياة.
إنه من خلال التجربة الحيوية ، وبموازاة مقولات الفقه واستنباطاته ، يقول للناس هذا حلال وهذا حرام ، وبواسطتها يخرج بهم من الطرق الملتوية إلى الصراط .. إن معطيات هذا الدين ، بما تنطوي عليه من مضامين فكرية ، يمكن أن تركب إلى الناس ألف مركب في كل زمان ومكان .. ولكن ليس كمركب الفن المؤثر الجميل من يقدر على فتح منافذ الوجدان البشري لكي تستقبل هبة اليقين الذي جاء به الإسلام ، هنالك حيث يتوحد الإنسان وينسجم ويتوافق مع الموجودات على مدى الكون الفسيح.
إن الأديب وهو يمارس عملية تشكيل الكلمات وصياغتها وهندستها ، للتعبير عن هذا الجانب أو ذاك من الحياة الإسلامية ، ولتوصيل هذا المضمون الفكري أو ذاك من عقيدة الإسلام للآخرين ، انما يمارس وظيفة من أخطر وظائف الأدب على الإطلاق. ولنتذكر كيف أن التواصل لن يتحقق بصيغته الفاعلة المرجوة إن لم يضم جناحيه على طرفي الإبداع : الجمال والتأثير ، وإلا وقع في مستنقع المباشرة والتقرير.
كل الوظائف الأخرى المشار إليها يمكن أن تندرج تحت ظل هذه الوظيفة الكبرى ما دام أنها روافد تتجمع لكي تصب في نهاية المطاف ، في بحر العقيدة الواسع العميق. ولن يكون من المحتوم على الأديب المسلم أن يقصر همومه على عرض القيم والمضامين الفكرية في معطياته .. بل يكفي أن يهدم عقائد الوضّاعين ومذاهبهم وتصوّراتهم .. يكفي أن يكشف عما تتضمنه من كذب وزيف والتواء .. يكفي أن يحكي عن مردودها على الإنسان ألماً وتعاسة ونكدا وشقاء ، لكي ما يلبث أن يتضح للناس أن البديل الوحيد .. البديل الحق ، هو الإسلام وحده.
إن وظيفة الأدب العقدية تمتد وتتسع لكي تنفسح على مدى رؤية الإسلام وتصوره الشامل للكون والعالم والإنسان ، وهو تصور يتفرد بامتداده وعمقه وانتشاره فيما يمنح الأديب ألف فرصة وفرصة للتعبير المؤثر الجميل .. إنه تصور يسعى للتحقق بأكبر قدر من الوفاق والتناغم بين الإنسان والوجود ، وإنشاء إيقاع موحد بين سائر الأطراف التي يحتويها الكون ويضم جناحيه عليها .. إن الأديب يجد نفسه هنا في ساحته الحقيقية المترعة المشحونة ، وهي ـ بحق ـ أكثر الساحات قرباً من حقيقة الإبداع الجمالي ، وبعداً ـ في الوقت نفسه ـ عن المباشرة والتسطح والتقرير.
إن قلم الأديب المسلم يمكن أن يتحدث عن كل شيء ويكتب عن كل تجربة ويعبر عن كل صغيرة أو كبيرة في مجرى الحسّ والشعور والوجدان ، أو في شبكة العلاقات الاجتماعية والبشرية ، أو في ساحة الطبيعة والعالم ، أو في منظومة الأفكار عبر مضامينها كافة.
إن تحديد أو وضع قائمة بالموضوعات التي يمكن أن يتحدث عنها الأدب الإسلامي ، أو يلامسها ويعيشها ، أمرٌ في غاية الصعوبة ، بل إنه لموقف مفتعل يسعى إلى قولبة التجربة الكبيرة في إطارات تضيّق عليها الخناق.
وثمة ما يرتبط بالجانب العقدي ، إنها الوظيفة ( الاجتماعية ) ، فالأدب الإسلامي مدعو لأن يبذل قصاراه لاغناء التجربة الاجتماعية الإسلامية ، وحمايتها وتحصينها ضد عوامل التفكك والتحلل والتغرّب والفناء.
إن ما تبقى لمجتمعاتنا الإسلامية عبر رحلة التاريخ الطويلة ( بقايا ) مما أراده دين الله لهذه الأمة كي تتوحد وتسعد ، وكي تكون لها ( المكانة الوسط ) التي أرادها لها الإسلام ..
لقد نقضت هذه المجتمعات مطالب عقيدتها وتقاليدها عروة عروة .. تآمر عليها المتآمرون لتحقيق هذا الانسلاخ .. نعم .. ولكن تآمرها على نفسها بالجهل والإغراء والضعف وعدم اتقاء الفتنة كان أكبر بكثير. ومع ذلك كله ، فانها تملك بحمد الله وقوة هذه العقيدة بعض ما أراد لها الإسلام أن تكون عليه ، وانه ليتحتم علينا أن نكافح في الباطن والظاهر من أجل حماية هذا الذي تبقى ، وتحصينه ، وتعميق جذوره في النفوس والآفاق.
وإن الأديب هو واحد من المدعوين لممارسة المهمة الخطيرة بفنه القادر على التأثير والتحصين ، بل إنه مدعو إلى أكثر من هذا .. إلى دعوة المجتمعات الإسلامية لاستعادة ممارساتها الأصيلة ، وقيمها المفقودة ، وتكافلها الضائع ، وتقاليدها الطيبة ، وإحساسها المتوحد ، وصبغتها الإيمانية التي أبهتتها رياح التشريق والتغريب.
إن الأديب المسلم ببنائه النماذج الاجتماعية المرتجاة ، وبهدمه البدائل القبيحة التي غزتها وإزاحتها ، انما يمارس مهمة مزدوجة تنضفر في نهاية المطاف لكي تؤدي وظيفتها الاجتماعية على أحسن ما يكون الأداء.
إن صورة المجتمع الإسلامي المنشود يمكن أن تجلّيها للناس ، وتدعوهم إليها في الوقت نفسه ، قصة أو قصيدة أو مسرحية أو رواية أو مقال. وإذا كان ( فانتيلاهوريا ) قد تحدث عن مجتمع مسيحي ، و ( جدعون ) عن مجتمع يهودي ، و ( باسترناك ) عن مجتمع ( ليبرالي ) و ( غوركي ) عن مجتمع شيوعي و ( كامي ) عن مجتمع وجودي و ( ميتشل ) عن مجتمع رأسمالي و ( مورافيا ) عن مجتمع منحلّ ، فانه قد آن الأوان لكي يبرز أديب ، بل أدباء إسلاميون ، لكي يتحدثوا لنا عن مجتمع إسلامي ، ويقصوا على العالم من أنبائه وملامحه التي لم يعرفها قط مجتمع من المجتمعات.
لن يتسع المجال للحديث عن الوظائف الأخرى التي تنطوي على بعدها
الفكري وبخاصة الوظيفتين النفسية والتربوية .. والمهم أن الأديب المسلم يتحتم أن يعتمد
( الإسلامية ) في تعبيره من أجل أن يكون صدوره منطقياً ومنسجماً مع ما يؤمن به ويعتقده.
ويقيناً فان ( الإسلامية ) هي غير ( الكلاسيكية ) أو ( الرومانسية ) أو ( الكلاسيكية الجديدة ) أو ( الواقعية ) أو ( الطبيعية ) أو ( الواقعية الاشتراكية ) أو ( الرمزية )
أو ( السريالية ) أو ( الطليعية ) أو ( المستقبلية ) .. الخ .. إنه مذهب متميز ، قد يلتقي مع هذا المذهب أو ذاك لقاءً جزئياً ، ولكنه يبقى مذهباً أدبياً إسلامياً مستقلاً ، لأنه في الأصول والكليات لا يمكن بحال أن يلتقي مع أي من المذاهب الأخرى .. إنه إذا حدث أن تم لقاء ما في ” ألشكل ” فانه يندر على مستوى ” المضمون ” و ” المذهب ” عموماً.
إن نقاط الخلاف أكبر بكثير وأعمق بكثير من نقاط اللقاء .. فها هنا ينبثق المذهب الإسلامي في الأدب عن رؤية تصدر عن الله سبحانه الذي أنعم على البشرية بالدين القيّم : الإسلام .. وهناك تنبثق المذاهب الأدبية عن رؤى بشرية وضعية قاصرة تتضمن الكثير من المناقص والأخطاء والثغرات والأحكام النسبية والاختلال والتطرف والشذوذ.
وإذا كان هذا الأمر لا يتضح على مستوى الشكل بحكم حياديته في كثير من الأحيان ، فانه يبدو بالوضوح الكامل على مستوى المضمون ، وما دام المضمون يتلبّس ( المذهب ) ويدخل في صميم نسيجه ، فان التباعد بين ( الإسلامية ) والمذاهب الأخرى يصبح أمراً محتوماً إلا في حالات عرضية لا تصلح أن تكون قاعدة يقاس عليها.