من أشهر النكات السياسية التي شاعت في فترة الستينيات وزمن الهزيمة السوداء، النكتة التالية:
عُثر على تمثال تحيّر العلماء في تحديد أصله، فاقترح جمال عبدالناصر إرساله إلى المخابرات ومديرها صلاح نصر لكشف غموضه، وبعد ساعات قالوا له: لقد تأكدنا أنه رمسيس الثاني، فقال لهم كيف تأكدتم؟ فقالوا: التمثال اعترف يا فندم!
وهناك نكتة أخرى ذات دلالة عامة شاعت في الفترة ذاتها؛ تقول:
إن زعيماً عربياً رسم على ذراعه وشماً يصوّر خريطة فلسطين المحتلة، فلما سئل عن السبب، قال: “حتى لا أنسى!”، قالوا له: وماذا ستفعل لو تحرّرت فلسطين والوشم لا يمحى؟ فقال ببساطة: “أقطع ذراعي”!
في جمهوريات الخوف وممالكه يلجأ الناس إلى النكتة، يعوّضون بها رعبهم وجبنهم واستسلامهم وتراخيهم في انتزاع الحرية والكرامة ولقمة العيش من اللصوص الكبار وحلفائهم الطغاة الظالمين.
حين تقوم أذرع الانقلاب والاستبداد بتعديد الإنجازات الفنكوشية التي حققها الانقلابيون الفاشلون، يسعى الشعب المسكين إلى تعويض القصور بتعديد إنجازات الفاشلين على طريقته الخاصة.. ففي مواجهة توحش جمال عبدالناصر وفشله الذريع سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، يصوغون نكتة التمثال الذي اعترف نتيجة التعذيب، وتستطيع أن تفسر صورة الأسرى المصريين في سجون الانقلاب الراهن ومعتقلاته وهم يعترفون بأمور لا تمت إليهم بصلة من قريب أو بعيد، مثل التفجيرات وتشكيل خلايا إرهابية، وجماعات عصابية، وتصنيع قنابل وأسلحة وغير ذلك، من ذلك الذي لا يعترف بأي شيء يطلب منه وهو يعذب بالصدمات الكهربية أو بالحرمان من النوم أو بالضرب الوحشي أو بالتعليق مثل الذبيحة أو إطفاء السجائر في الجسم أو إيلام الأماكن الحساسة في الأسير؟ هي الأساليب النازية اليهودية ذاتها التي طبقت على أسرانا بعد هزائمنا العسكرية المذلة، وكان الجلادون في عهد البكباشي الأرعن سبّاقين إلى تطبيقها مع الأسرى المسلمين في سجونه.
ومع اتساع دائرة الخيال تنطلق النكتة إلى دلالة عربية تتجاوز الحدود إلى موقف السادة الزعماء المناضلين الذين سخّروا كل الأجهزة لتردّد مزاعمهم عن تحرير فلسطين والنضال من أجلها، واضطرارهم لمصادرة الحريات واستعباد الشعوب العربية في انتظار تحقيق الأمل بتحرير فلسطين، بيد أن النكتة تستخدم التورية لتؤكد النتيجة الحتمية لأكاذيب القادة الملهمين: أقطع ذراعي!
يغضب الانقلابيون حين تجري قناة “الجزيرة” حواراً مع الأسير السوري العلوي الذي دمر بطائرته كثيراً من المباني العامرة وحولها إلى أطلال، وقتل كثيراً من الأبرياء، وتسبب في هجرة الألوف من بيوتهم ومرابعهم، ويتجاهلون أن الطيار ظهر مستريحاً لم يعذبه من أسروه، ولم يرغموه على الكلام أو الاعتراف، فقد ظهر ليجيب عما يريد الإجابة عليه فحسب، وبدا الهدف من الحوار أن يبادله من يعنيهم أمره!
في يوم ما في الستينيات، أرغموا بعض قادة الإخوان الأسرى في سجون البكباشي على الجلوس أمام حمدي قنديل – وكان يومها في عزّ شبابه – واعترفوا بما أملاه عليهم الجلادون، ويحمد له أنه بعد ثلاثين عاماً اعتذر عن إجراء هذا الحوار!
مشكلة الانقلابيين وهم يعددون إنجازاتهم الفنكوشية أنهم ينسون أبسط حقائق التاريخ والجغرافيا، فالبكباشي الذي كان يفاخر بالقاهر والظاهر، وأقوى طيران في الشرق الأوسط، وأنه ليس خِرِعاً مثل مستر إيدن، لم يفق من الصدمة المذهلة وعسكره يولون الأدبار في الصحراء، وتصطادهم طائرات العدو، ومدرعاته ودباباته تتحول إلى غنائم سهلة للغزاة يتلقاها جديدة لم تطلق طلقة واحدة، ولا ضرورة للحديث عن ضياع سيناء وغزة والقدس والضفة والجولان والأغوار والمزارع اللبنانية!
الإنجازات الفنكوشية مثل المليون شقة والعاصمة الجديدة والمانع المائي الثاني الذي سيحتفي الانقلاب بإنجازه مثلما فعل الخديوي إسماعيل عندما حفر قناة السويس، لا تساوي شيئاً أمام الإنجازات الكبرى التي تغص بها الصحف الانقلابية صباح مساء، مثل الحكم بمئات الإعدامات على الأسرى المسلمين المصريين، ومئات المؤبدات، وآلاف السنوات على الإرهابيين المسلمين المصريين، الذي يخرجون للمطالبة بالحرية والكرامة والاستقلال، ومصادرة الأموال الحلال انتقاماً ممن يرفضون الحرب على الإسلام.
رداحة انقلابية كتبت أن “داعش” تقطع الرؤوس وتقطع العيش، ونسيت أن الانقلاب الدموي يفعل الشيء نفسه وأكثر وأبشع.. فهل يأتي يوم تتذكر فيه هذه الحقيقة؟
هناك إنجازات يومية أخرى ترصدها صحف الانقلاب مثل القبض على المعارضين المسلمين واكتشاف خلايا نائمة ويقظة، ومداهمة البيوت الآمنة في المحافظات والمدن والقرى، وفصل الأساتذة والموظفين المشكوك في ولائهم للانقلاب، وتكميم أفواه الكتاب والمفكرين الذين يحلمون بالحرية والديمقراطية وينتقدون حكم النبوت، ووصف كل من يدعو للشرعية بالإرهاب والتوحد مع أهداف “داعش” لإسقاط الدولة المصرية وتفكيك مؤسساتها وإسقاط أركانها الرئيسة من جيش وقضاء وأجهزة أمنية، وتفكيك الروابط بين الدولة المصرية ومحيطها الخارجي، والسعي لقطع خيوط الإمداد السياسي والدبلوماسي التي تدعم حضور مصر في المحافل الدولية، ومنع الاستثمارات والوفود السياحية!
فضلاً عن كل ذلك اتهام جماعة الإخوان بكل الجرائم والحوادث التي تجري على أرض مصر من أسوان إلى الإسكندرية، لدرجة أن الناس استغربوا لماذا لم يوجه إليها اتهام بسرقة حذاء رئيس تحرير كان يحضر جنازة عمر الشريف وعاد إلى مكتبه بشبشب!
دول العالم غير العربية وغير مصر تحقق يومياً إنجازات علمية واقتصادية وسياسية تختلف عن إنجازات الانقلاب، وتنطلق في ظل الحرية بشعوبها إلى الأمام، من قبيل الاكتشافات العلمية والطفرات الاقتصادية وتصفير الديون، وتحقيق مكاسب في الاتفاقات والمعاهدات، وآخر ما حققه الغرب الصليبي ودولة الفرس كان الاتفاق حول المشروع النووي، وبالطبع كان الخاسر الأكبر أمة “حنّا للسيف” التي صارت قصعة الأمم، لأنها تحارب دينها، وتقتل أبناءها وتوالي أعداء الله وتسارع فيهم! بينما تاجر البندقية الذي يدّعي العداء لإيران يتلمظ سعادة وفرحاً، وهو يطمئن أن الهلال الشيعي يحميه، وأن المقاومة والممانعة من تراث أحمد سعيد الإذاعي، وأن الحوزات تضمن الشركات اليهودية والتجارة اليهودية التي تعمل على أرض فارس.
أما إنجازنا العظيم: التمثال اعترف يا فندم!
الله مولانا، اللهم فرّج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!