الإسلاميون والسلطة والخلافة والبديل المفتقد
فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين،
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحابته الغر الميامين
أيها الإخوة الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،
ألح علي كثير من الصادقين في أن أبدي رأيا حول الانتكاسات التي أصابت الحركات الإسلامية المعاصرة عند محاولاتها المشاركة في الحكم والإصلاح من الداخل، وكنت قد قررت ألا أعلق على ذلك؛ لأنه مجرد صورة من صور الفشل العام والعميق الذي أصيبت به حركات الإسلام في المجال السياسي، الفشل الذي يأبى المنتسبون إليها معرفته أو الاعتراف به بل ويعجزون عن التفكير فيه. مع أن كل مشروع فكري أو علمي أو صناعي أو سياسي أو اقتصادي لدى عموم العقلاء الأثبات إذا تقرر العمل له وإقامته على الأرض أعدوا له أولا: تصورا واضحا، وأعدوا له ثانيا وبعد ذلك تصميما دقيقا، وأعدوا له ثالثا أدوات عمل قادرة، ثم تدارسوا عقب تنفيذه معالمَ نجاحه وأسبابَ فشله وأخطاءَهم فيه، وإلا كان الاندفاع للعمل التنفيذي عشوائيا، وانحرف بذلك عن الهدف وسقط في الفشل إن لم يقع في الإجرام والعدوان.
هذا بالضبط ما حدث لفصائل بعض الحركات الإسلامية المعاصرة، إذ اندفعت للسيطرة على السلطة السياسية في بلادها أو للمشاركة فيها بزعم الإصلاح من الداخل، فباءت جهودها بالفشل الذريع، والأمر لم ينحصر في هذا الفشل، بل في الغباء الذي لم تستطع به معرفة ما حل بها أو الاهتداء للمخرج مما وقعت فيه، فواصلت الانغماس والإصرار على مواصلة الجهل والعمل به.
هذا حال كل من وصل منهم إلى السلطة فلم يجدوا مشروعا إسلاميا سياسيا مُسْتوعَبا أو مكتوبا أو مُتصوَّرا، فحاولوا العمل بديمقراطية لا يؤمنون بها ولا يتقنون أساليبها، وسقطوا في الاستبداد والظلم والفساد، والجهل المطبق لما ينبغي العمل به والعجزِ عن الوفاء بما وعدوا به. ففقدوا بذلك مبرر وجودهم وكانوا شهادة على الإسلام، لجهلهم بنظامه السياسي وتعهدهم بإقامته وهم لا يعرفون طبيعته ولا يمتلكون تصورا له ولا تصميما لبنائه ولا أدوات لتشييده.
إن الخلل الأساس في سعي العاملين لإقامة النظام الإسلامي السياسي هو جهلهم المطبق بهذا النظام شكلا ومضمونا، وبطريقة بنائه وتشييده، وإن مواصلتهم السير بهذا الجهل وهذه الغوغائية لن يزيدهم إلا إحباطا وفشلا، وعليهم أن يقفوا وقفة تأمل في مسيرتهم كلها بدون تعال أو غرور، وأن يعدوا للطريق أدواتها الضرورية، وأول هذه الأدوات معرفة ما يريدون بدقة، وأن يضعوا لما يريدونه تصميمه المنبثق من دينهم، وأن يخضعوا هذا التصميم للحوار والنقد والرأي الحر، أما الديمقراطية فهم لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، وأما الاستبداد الذي لجؤوا إليه أو يلجؤون، لتثبيت أقدامهم على ظهر من يرفضهم فهناك من يتقنه أكثر منهم.
إن أول خطوة ينبغي أن تكون لنا لمعالجة هذه الحالة هي أن نقتنع أولا بعدم امتلاك فكرنا السياسي الرائج في ساحة الحركات الإسلامية لأي تصور عملي للبديل السياسي الذي يستحق أن يسمى نظاما إسلاميا منبثقا من الكتاب والسنة انبثاقا صرفا،وأن نتجه ثانيا للبحث العلمي الجاد عن هذا البديل السياسي الإسلامي من أجل معرفته بوضوح ثم التبشير به والدعوة إليه والعمل له بصدق، وذلك من خلال مراجعة جادة حكيمة للتاريخ الإسلامي واكتشاف معالم الخلل فيه، والرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والسيرة النبوية الشريفة لاستقصاء معالم هذا النظام، ومعالم إقامته على الأرض، وأن ننصرف ثالثا عما أسسه الفقه الاستبدادي التبريري منذ الانقلاب على الخلافة الراشدة، التي أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم معالمها في ما كتبه لأهل المدينة عندما أسس لهم أول دولة إسلامية ووثق نظامها فور هجرته في وثيقته المشهورة بصحيفة المدينة، ثم بشر بها في الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم :(تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعهاثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذاشاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذاشاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت “.
أما وثيقة المدينة فقد أعرض عنها الباحثون في الفكر السياسي الإسلامي، فلم يستفيدوا منها عند التفكير في البديل الأمثل لنظام الحكم في الإسلام وعتموا عليها بما كتبه الماوردي وفقهاء تبرير الاستبداد منذ قيام الملكية الأولى على يد بني أمية ومن توارث الحكم بعدهم إلى عصرنا الحديث.
وأما حديث الخلافة فقد ناله من تدليس معانيه والتمويه على مقاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما ناله، فشخصنها بعضهم وأسقطوها على أي حاكم فرد، ظهرعدله أم لم يظهر، مَلِكا كان أو أميرا أو مجردَ حاكم، في دولة رأسية السلطة يحتكر القرارَ فيها شخص أو مجموعة أشخاص على اختلاف مصطلحات الأنظمة السياسية القائمة، وكان وجه الخطإ أو التحريف لمعناه يكمن في تسرع الفهم لألفاظ الحديث الشريف، لا سيما والرسول عليه الصلاة والسلام قد قسم في حديثه الشريف عهود الإسلام في الأمة إلى خمسة عهود هي: العهد النبوي النموذج، ثم عهد الخلافة على منهاج النبوة، وهو العهد الذي حاول فيه صحابته الكرام السير على منهاج النبوة (عهد الخلافة الراشدة الأولى)، ثم عهد الملك العاض ثم عهد الملك الجبري، ثم توج المسيرة بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
ولذلك كان التعبير النبوي في منتهى الدقة والوضوح، فلم يقل صلى الله عليه وسلم :” يكون فيكم خليفة راشد، ولا مَلِك عاض ولا مَلِك جبري (متجبر)، ولا خليفة على منهاج النبوة، وإنما قال:”خلافة راشدة” أي نظام خلافة راشدة، وقال: مُلْك عاض– بضم الميم وسكون اللام – أي نظام مُلك عاض، وقال مُلك جبري – بضم الميم وسكون اللام – أي: نظام ملك جبري، وقال: خلافة على منهاج النبوة أي نظام خلافة على منهاج النبوة.
والحديث الشريف بذلك يتحدث عن أنظمة للحكم إسلامية مرضية أولها ما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ودونه في وثيقة المدينة التي كتبها أول هجرته إليها، وثانيهما ما حاول تطبيقه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم جميعا، وثالثها ما بشر به عليه الصلاة والسلام ويعمل له العاملون، ولم يتحدث عن أشخاص حاكمين وإنما عن نظام سياسي للخلافة.
لذلك ينبغي لمفكري الصحوة الإسلامية المعاصرة البحث عن نظام للخلافة الراشدة ومنهج لإقامتها قبل البحث عن أفراد نسلمهم أمر الأمة فيظهر فيهم العادل حينا والظالم والفاسق والخائن حينا والضعيف الخائر حينا.
وهذا منطلق ما سرت عليه عند بحثي حول نظام الحكم في الإسلام، وتضمنه كتابي (دولة الشورى).
الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني الهاشمي
مؤسس الحركة الاسلامية في المغرب