الوحي عماد الفكر الإسلامي
لفضيلة الشيخ محمد الحمداوي رحمه الله تعالى
بالإنسان، وفي الإنسان، اتضحت حقيقة الفكر، وبالفكر وفي الفكر، تميز الإنسان من الحيوان. وبالوحي، وفي الوحي هدى الله الإنسان المسلم إلى أن يكون “مفكرا إسلاميا” مهديا، وهاديا، باحثا عن الحقيقة، في ذاته وفي الكون، وواصلا بذلك، وصول المعرفة واليقين، إلى بارئه وبارئ الكون. وفي ذلك سعادته في نشأته الأولى، حيث خلق له بارئه ما في الأرض جميعا، وجعل له الأرض ذلولا يمشي في مناكبها ويأكل من رزقه، ويحرص على ما ينفعه، ولا ينسى نصيبه من الدنيا. وفي ذلك أيضا سعادته في نشأته الأخرى، حيث يذهب إلى ربه راضيا مرضيا، فائزا بالمغفرة والرضوان.
وفي مجال هذا البحث، وفي معارك الصراع بين منطق الهداية والوحي، ومنطق الهوى والرأي، تميزت حقيقة (الفكر الإسلامي) عن غيره من الأفكار، وعلى مر الدهور وتعاقب الأعصار.
والباحثون اليوم في المذاهب والأفكار يتبعون طريقة التحليل، حيث يرجعون الفروع إلى الجذور، والفصول إلى الأصول، والبحث في حقيقة (الفكر الإسلامي). أصوله وفروعه، يقتضينا أن نجزم تمام الجزم بأن الدعامة الأولى التي يقوم عليها هذا الفكر في أصوله وفروعه، هي أنه “من الوحي نبع وإلى الوحي يرجع”، وكل تصور للفكر الإسلامي، سواء فيما غبر منه، وما حضر، على غير هذا الأساس، فإنما هو انحراف به عن أصله، وخروج به عن حقيقته، وأن كل ما قد شبه للناس من مذاهب ونظريات، وتعاليم وثقافات، على أنه من الفكر الإسلامي فإنما هو (الدخيل) وقد تصدى (مفكرو الإسلام) في مختلف عصورهم لتمييز الأصيل من الدخيل، وأظهروا بواضح الحجة، وصحيح الدليل، على أن (الدخيل) ليس في شيء من (الأصيل).
وسأحاول في هذا البحث أن أجلي الصورة الحقيقية لتأصيل الوحي في الفكر الإسلامي منذ نشأته عبر عهود النبوات وتعاقب الرسالات، حتى ختامها بالرسالة المحمدية، التي لا تزال طائفة من أمة رسولها، المتمسكين بمبادئها، المفكرين بأصولها ، ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
في القرآن سورة اسمها (سورة الإنسان) افتتحها رب الإنسان بقوله جل جلاله:
“هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1) إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً(2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)”.
وفي سورة البلد، جاء قول الله:
” لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَد(4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد(7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)”.
وفي سورة الشمس جاء قول الله:
” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10).
الإنسان إذن، بشهادة رب الإنسان (أمشاجٌ)، فيه عنصر المادة المعرض للكون والفساد، والتحلل والتغير، وفيه غريزة الحيوان وخصائصه، وفيه إدراك العقل وسلطانه، وفيه كذلك الروح الملكوتية ذات الأشواق إلى الخير والجمال والكمال والتدين، فيه الخير والشر، ومن ثم فقد جمع الإنسان في حقيقته كل متناقضات الأشياء فأوعى، ومن ثم فقد كان حريا بأن ينشد فيه شاعر اليونان الأول سفوكليس أنشودته القائلة:(ألا ما أكثر العجائب، ولكنك لا تجد فيها عجيبة أعجب من الإنسان). ومن ثم فقد تناقضت فيه أقوال من حاولوا شرحه بالتعريف والتحديد، حتى قال فيه (باسكال): “إنه ذلك المخلوق الغريب الذي لا سبيل إلى فهمه”. وحتى جاء من بعد باسكال، ألكسيس كاريل وعنون كتابه في الإنسان بقوله: (الإنسان ذلك المجهول).
ذلك لأنه الإنسان ذو الطبيعة المزدوجة، والكيان المتناقض، الذي جمع بين القوة والضعف، والفكر والغريزة، والفعل والانفعال، والتأثير والتأثر، والبطولة والخوف، والشهوة الجامحة، والعفة الكابحة، والفجور والتقوى، والكفر والإيمان، وصدق الله:
” لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين:5)
وشاء ربك، ولحكمة بالغة جلت عن الوصف، وسر خفي عز عن الإدراك، شاء ربك أن يكون الإنسان في أول خلقه (فتنة)، فتنة لملائكة الله حين أقدموا على تجريح خلق الله دون أن يعلموا السر في خلقه، وتقدموا بالسؤال إلى ربهم قائلين: ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ” (البقرة:30).
وفتنة للشيطان نفسه حين كان سببا للشيطان في الخروج من ربقة الطاعة، حيث حكم الرأي. وخالف الأمر، ورفض الأمر بالسجود قائلا: ” أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” (لأعراف:12)
وفتنة لنفسه، إذ عهد له ربه فلم يجد له عزما، “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً” (طـه:115) ، “فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى” (طـه:121) .
ولو شاء ربك لجعل في الأرض ملائكة يخلفون، وهم فعلا قد طلبوا ذلك. باستفهام الاستغراب، وصراحة القول، وإظهار الصلاحية حين قالوا: ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ” (البقرة:30). ولكن شاء ربك أن يخلف في الأرض الإنسان، على ما في الإنسان من طبيعة الإفساد وغريزة القتل، وحب الأثرة، وتلك مقتضيات الحكمة في سر الإعمار: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (البقرة:32).
ولئن أثبتت قصة خلافة الإنسان في الأرض، أن الإنسان قد أوتي من نور العلم والفكر ما جعله في حجة الله على ملائكته أحق منهم بالخلافة في الأرض، فإن قصة الأكل من الشجرة، ونسيان الخطاب، ومخالفة النهي، قد أثبتت من جانب آخر أن الإنسان قد ركب في طبيعته من ضعف الإرادة، وغلبة الشهوة، ما لا يستطيع معه أن يدرأ الشبهات، أو يغلب الشهوات، أو يستكشف عواقب الأمور، فيميز دائما بين النافع والضار، والطيب والخبيث في التروك والأفعال، وذلك ما عناه الله حين قال:
“إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” (الأحزاب:72)
وهنا اتضح أن الإنسان (لا يقف وحده). بل بدت حاجته إلى الإسناد، إسناد الله له بوحي النبوات، وإرسال الرسالات، فكان أول العهد، “وعهدنا إلى آدم”، وبدأ خطاب الله المتعلق بفعل المكلفين ينزل من السماء، ومن هنا كانت نقطة البدء في نشأة “التفكير الإسلامي” على وجه الأرض. فحين خاطب الله الإنسان الأول قائلا: ” وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ” (البقرة:36) ، كان ذلك أول نزول أمر قدري في تاريخ التقدير والخلق بالنسبة إلى الإنسان، أما حين خاطب الله هذا الإنسان قائلا: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)” البقرة. فقد كان ذلك أول تخطيط إلهي وضع للتفكير الإسلامي الأصيل حتى لا يضل العقل، ويغلب الهوى، وتعمى القلوب التي في الصدور، فبهذا العهد الإلهي الأول لأول إنسان ظهر على وجه الأرض وضع بنو الإنسان في مفترق طريقين لاتجاه التفكير الإنساني.
-
الاتجاه الذي يبتدئ فيه التفكير نقطة انطلاقه من (الوحي) الإلهي، من النص وفهم النص واتباع النص والاستنباط من النص.
-
الاتجاه الذي يبتدئ فيه التفكير نقطة انطلاقه من الرأي المجرد، والهوى المضل، ووسوسة الشيطان.