الرئيسية / المنبر الحر / رسالة ناذرة والعاديات ضبحا فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع

رسالة ناذرة والعاديات ضبحا فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع

 وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً

 

 

 الشيخ عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي

مؤسس الحركة الاسلامية في المغرب

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين

أيها الإخوة الأبرار:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

لا شك أن البذرة الطيبة أصل كل شجرة طيبة، إن هي صادفت تربة زكية شاكرة غير كافرة. حينئذ تؤتي أكلها بإذن ربها، فتعم ثمارها الكون بالخير والرحمة {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }[2].

كذلك الدعوة الإسلامية النيرة، وهي الكلمة الطيبة، حين تغرس في النفوس الزكية، تزهر وتثمر وتنطلق في كل اتجاه وربع، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء }[3].

إن ثنائية انطلاق الحركة الربانية بذرة طيبة وتربة طيبة شرط ضروري للإثمار {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[4] ، فإن تعثرت الثمرة أو أصيبت البذرة بالعقم فاعلم أن الخلل أصاب صميم الثنائية.

كذلك كان بدء النبوة الخاتمة، كلمة طيبة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }[5] ، حلت في قلب رجل طيب {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[6]4، ثم تزكية وتربية وتنويرا لخيار زمنهم من الصحابة الأبرار، ثم اندفعت خيول الله فتحا مبينا.

·                    وعندما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم النفير العام بقوله[7] ” يا خيل الله اركبي”، كان  هذا الإعلان منه خطوة متقدمة لقافلة من الأخيار في درب طويل  هو جسر الدنيا إلى الآخرة. وكان تشبيهه رجاله بخيل الله أدق تعبير عن معادنـهم وحركة تفاعلهم مع العقيدة إيمانا واحتسابا ومدافعة.

·                    –   فالخيل أقسم بها رب العباد، ووصفها بأجل الأوصاف وأكرمها[8](وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً {1}فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً{2} فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً{3} فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً{4} فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً{5}     

·                    –  و(‏ ‏البركة في نواصي الخيل)[9]

·                    –  و(‏الخير ‏‏معقود ‏في نواصي ‏‏الخيل إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم )[10].
وحَرِيٌّ بمن سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم خيلَ الله أن يكون مُبْتَدَأ أمرهم الاتصاف بما ذكرت خديجة ( رض ) من صفاته قبل البعثة، وحَرِيٌّ بنا أن نبحث عن معادن من ندعوهم ونؤاخيهم ونرافقهم، فالرفيق قبل الطريق.
وفرق شاسع لا يقاس بين أن تخاطِب الصافناتِ الجياد أو تخاطِبَ ما سواهم من بهيمة الأنعام. وهو نفس الفرق بين قولك ” يا خيل اركبي ” وقولك “يا بهيمة اعلفي”.
إن أولَ خطوات خيل الله تَأَسٍّ رشيدٌ بأخلاق النبوة يؤهلنا لتحمل الأمانة، ويجعل منا أداة صادقة لتبليغ الرسالة، فما كل مُدَّعٍ كُفُؤا لما ادَّعَى، والأقدام الملوثة لا تطأ أرضا إلا أفسدتها.
تقول أمنا خديجة رضي الله عنها عن صفات خلقية لزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي والبعثة، وذلك عند رؤيته جبرائيل عليه السلام أول مرة، وانزعاجه رهبة وخوفا
[11]: (كلا أبشر فوالله لا يخزيك  الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتَصْدُق الحديث، وتَحْمِل ‏ ‏الكَلّ،َ ‏ وتُكسِب[12] المعدوم، ‏وتَقْري ‏ ‏الضيف، وتعين على نوائب الحق …)
هذه الصفات كانت سجية في طبع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وخلقا أصيلا في سلوكه، وشيما راقية تَنَـزَّل عليها الوحي فازدادت إشراقا ووضوحا ونورا. وذاك ما يبين سر نجاح الدعوة في مستهل أمرها وقدرتها على تخريج خير القرون إيمانا وصدقا وإيثارا وتراحما ومتانةَ ارتباطٍ، فاستحقت بذلك نصر الله الموعود ونالته.
هذه الصفات التي ينبغي أن تكون في صميم التركيبة النفسية للداعية الحق قبل أن يقبل على الدعوة ويتحمل تكاليفها، كما وردت بلسان أول شاهدة على ميلاد الرسالة ومؤمنة بها قبل غيرها من الجن والإنس هي:
   صلة الرحم.
صدق الحديث.
     حمل الكَلّ.
  -كسب المعدوم بالإنفاق على الضعفاء والمحتاجين.
–  قِـرَى الضيف.
الإعانة على نوائب الحق.

صلة الرحم معيار لمعرفة أصالة الرجل ومتانة انتمائه لأسرته وأمته وعدم تفريطه في أهله ورفقاء دربه أو خذلانهم والتخلي عنهم، وعنوان واضح لمدى شهامة المرء وكرامته وإبائه الضيم والمذلة في نفسه وأهله ودعوته وأمته.
وصدق الحديث مسبار شجاعته وقدرته على تحمل الحق والجهر به والدفاع عنه، وليس من يصارح بالحق ويصدع به كمن يداهن ويراوغ ويزيف خوفا أو طمعا أو تحايلا.
وأما ” الكَلُّ ” – بفتح الكاف – فهو الثِّقل، ومنه قوله تعالى: { وهو كَلٌّ على مولاه } ويدخل في حمل الكَلِّ الشعورُ بشعور الضعفاء والأيتام والأرامل والعجزة والمظلومين، ومشاركتُهم الوجدانية، وتحملُ مشقة الدفاع عنهم، والاهتمامُ بهمومهم ومعاناتهم، والتخفيفُ عنهم والإنفاق عليهم.
وكَسْب المعدوم يقتضي أن تُكسِبَ  المحتاجين ما يعدمونه من المال، وتوفرَ لهم ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، وأن  تجود بكسبك في وجوه الخير وأبواب البر.
وقِـرَى الضيف علامة بارزة على الكرم الذي يشمل الغني والمحتاج، إذ الكريم كالعين الثرة التي لا تمنع شاربا ولا ترد طالبا. وتلك صفة أول حامل لرسالة الإسلام عليه الصلاة والسلام، وصفة ورثته والسائرين على خطاه.
أما نوائب الحق فهي ضروب الابتلاء الدنيوي التي تعترض المرء، لأنها حق لازب لا يسلم منه أحد، (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }
[13]، والمرء إذا ما تعرض لنوائب الابتلاء بالخير كانت الإعانة له أن يُنْصَح بشكر المنعم وهو الله تعالى، وإن نالته نوائب الشر وابْتُلِيَ به أُعِينَ على ذلك بالمساعدة المادية والمعنوية والحث على الصبر والاحتساب والدعاء.
إن خديجة الصديقة رضي الله عنها صاحبة العين الثاقبة التي رصدت معدن الرجل ( النبي فيما بعد) قبل زواجه بها، هي التي اكتشفت مكنونه وما ينتظره من مجد الدنيا والآخرة، فاهتدت للإيمان قبل الناس جميعا، هذه العين البصيرة كانت موقنة بأن أخلاقا كهذه ليس باليسير اجتماعها في امرئ أبدا، فإن اجتمعت فلشأن خطير وهدف كبير وغاية عصية المنال.
إن المهام الكبيرة لا يقوم بها ويحمل ثقلها إلا أعظم الرجال، والمعالي لا يخترق عنان السماء إليها إلا جوارح الطير وصقورها، وشتان بين من غايةُ هَمِّهِ وزارةٌ تُرْدِيه أو مُلْكٌ يُضْنِيه أو تِبْن يملأ بطنه، وبين مَنْ مُنْتَهَى مُبْتَغاه مجاورةُ الأنبياء والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
ليس مِنْ عيبٍ أن يختار المرء لدعوته – وهي أجَلُّ ما لديه في دنياه لآخرته – أكرمَ الرجال وأشدَّهم مِراسا وأعلاهم همة، بل العيبُ أن يتهاون في تدقيق الاختيار، فما كُلُّ جَرْوٍ وليدَ أسدٍ، وما كلُّ بيضةٍ تَفَقَّصَتْ عن فرخ صقر، والناس معادن فيها الرديء والجيد (الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في
 الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود ‏ ‏مجندة ‏ ‏فما تعارف منها ائتلف وما ‏ ‏تناكر منها اختلف)[14]
نلقي بنظرة إلى الخَلْف، إلى ما سلف من رصيد تجربة، وعناء بلاء، فنكتشف صنفين ممن انتسب إلى هذه الدعوة منذ خمس وثلاثين سنة خلت:
رجال كالجبال الشُّم، اتضحت معالم الطريق في قلوبهم وأذهانهم، واستوت على الجادة خطواتهم ونظراتهم، وآخرون هوت بهم الأرصفة إلى حضيض التخلف والملق والتزلف، فظنوا بأنفسهم ما ليس لها، والخروفُ خالياً أسدٌ، فما تضررت الجبال بالعواصف والأنواء، وما استفاد المنبطحون إلا مزيد الذل والازدراء، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
إن البغال لا تعدو ضَبْحا أو توُري قدحا، وإن الحمير لا تُغِيرُ صُبحا أو تُثير نقعا، أو تتوسط جمعا، فلله رجال عافوا لذيذ التبن علفا وملبسا ومنصبا، وآثروا قربا من الرحمن، وهناءة عيش في ظل الإيمان، وجنة خلد يدخلونها ومن صلح من آبائهم وذرياتهم ورفقاء طريقهم.
فيا خيل الله، يا فرسان خيل الله، قد علم كل أناس مشربـهم، فأعيدوا النظر في فرزكم الرجال من الذكران، والنساء من الإناث، فما كل ذكر برجل، وما كل أنثى بامرأة. وما الله بغافل عما تعملون.


والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته


أخوكم في الله: عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي

[1]   –  العاديات هي الخيل التي تعدو في سبيل الله، والضَّبْحُ هو ما ينبعث منها من أصوات بسبب سرعة الجري وشدته.
أقسم الله تعالى بها، ولا يجوز للمخلوق أن يقسم بغير الله.( من سورة العاديات)

[2]  –   سورة  الأعراف 58

[3]  –   سورة  إبراهيم24

[4]  –  سورة الذاريات

[5]  –  سورة العلق1

[6]  –  سورة القلم4

[7]   –  أبو داود في السنن

[8]  –   سورة العاديات

[9]  –   البخاري

[10]  –   الترمذي

[11]  – في رواية مسلم: (كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا والله إنك ‏‏ لتصل ‏‏ الرحم ‏‏ وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)، وفي رواية البخاري: ‏ ‏عن ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏أنها قالت: ‏
‏أول ما بدئ به رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فكان يأتي ‏ ‏حراء ‏ ‏فيتحنث فيه ‏ ‏وهو التعبد ‏ ‏الليالي ذوات العدد ‏ ‏ويتزود لذلك ثم يرجع إلى ‏ ‏خديجة ‏ ‏فتزوده لمثلها حتى فجئه الحق وهو في ‏ ‏غار حراء ‏ ‏فجاءه الملك فيه فقال اقرأ فقال له النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقلت ‏ ‏ما أنا بقارئ فأخذني ‏ ‏فغطني ‏ ‏حتى بلغ مني ‏ ‏الجهد ‏ ‏ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني ‏ ‏الجهد ‏ ‏ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني ‏ ‏الجهد ‏ ‏ثم أرسلني فقال: ‏

( أقرأ باسم ربك الذي خلق) حتى بلغ( علم الانسان ما لم يعلم).

فرجع بها ترجف ‏ ‏بوادره ‏ ‏حتى دخل على ‏ ‏خديجة ‏ ‏فقال: ‏ ‏زملوني ‏ ‏زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا ‏ ‏خديجة ‏ ‏ما لي وأخبرها الخبر وقال قد خشيت على نفسي فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل ‏ ‏الكل ‏ ‏وتقري ‏ ‏الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به ‏ ‏خديجة ‏ ‏حتى أتت به ‏ ‏ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ‏ ‏وهو ابن عم ‏ ‏خديجة ‏ ‏أخو أبيها وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له ‏ ‏خديجة ‏ ‏أي ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال ‏ ‏ورقة ‏ ‏ابن أخي ماذا ترى فأخبره النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ما رأى فقال ‏ ‏ورقة ‏ ‏هذا الناموس الذي أنزل على ‏ ‏موسى ‏ ‏يا ليتني فيها جذعا أكون حيا حين يخرجك قومك فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أومخرجي هم؟ فقال ‏ ‏ورقة ‏ ‏نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ‏ ‏ينشب ‏ ‏ورقة ‏ ‏أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له ‏ ‏جبريل ‏ ‏فقال يا ‏ ‏محمد ‏ ‏إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك ‏ ‏جأشه ‏ ‏وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له ‏ ‏جبريل ‏ ‏فقال له مثل ذلك ‏

[12]  –  تَكسِب :تقرأ أيضا بفتح التاء والمعنى واحد

[13]   –  سورة الأنبياء 35

[14]  –  مسلم.

 

عن المحرر

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *