الرئيسية / عاجل / حوار مع الدكتور محمد جلال القصاص الحركة الإسلامية قضايا وهموم -1-

حوار مع الدكتور محمد جلال القصاص الحركة الإسلامية قضايا وهموم -1-

حوار مع الدكتور محمد جلال القصاص

 

اضواء على مسيرة الحركات الاسلامية المعاصرة

 

 الحركة الإسلامية و قضايا وهموم

نحو ترشيد الحركة الإسلامية

شبكة وا إسلاماه الإخبارية

حوار واعداد  وتقديم :زكرياء بوغرارة

 نفتح  ملف الحركات الإسلامية المعاصرة في مسيرتها الممتدة من عقود .. ننكش في البدايات والمآلات  والدروس والتجارب  والنماذج    مع شخصية اسلامية ليست بعيدة عن هموم العمل الإسلامي و  الحركات الاسلامية في حوارات   ننشرها على حلقات مع الدكتور محمد القصاص احد  مؤسسي الجبهة السلفية في مصر  والقيادي السابق فيها   الباحث في الجماعات والحركات الاسلامية… تغطي كل فترة نشاط  وعمل الحركات الاسلامية من بدايات التأسيس والتحولات  والتجارب والمنعطفات الكبرى التي شهدتها  في رؤية تحمل نفسا جديدا  يستهدف ترشيد  العمل الاسلامي وإعطاءه نفسا جديدا ..

في الحلقةالأول من هذا الحوار إطلالة على السياق العام الذي تتحرك فيه الصحوة الإسلامية منذ بدأت، ونقاش مستفيض، بما يناسب حوار، للمقولات التي حاولت تفسير نشأة وتطور الصحوة الإسلامية، نلقي الضوء على هذه المقولات وما ترسخه في وعي المتلقي، أو ما يحاول المتحدثون بها ترسيخه في وعي المتلقي، ثم يقدم الدكتور محمد جلال القصاص نموذج تفسيري لصعود وتراجع الحركات الإسلامية من خلال مقولتين: الأيديولوجيا والتفاعلات بين الوحدات الدولية.

وفي الإصدارات القادمة، إن شاء الله، نتطرق للحديث عن: مرجعية الجماعات أو علاقتها بالعلماء، وعلاقتها بالجماهير، والتقلبات الفكرية التي تحدث في داخل الجماعات الإسلامية، وأدوات الجماعات، ثم مستقبل الجماعات الإسلامية، وما هي ضروريات الوقت فيما يتعلق بتصحيح المسار.

 فإلى الحوار الشيق والماتع  في الحلقة الأولى

 

 

محمد جلال القصاص في سطور
حاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية بتقدير امتياز من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكانت في الحركات الإسلامية عابرة القوميات (تنظيم القاعدة حالة دراسة).
حاصل على الماجستير في العلوم السياسية من معهد البحوث والدراسات العربية بتقدير امتياز، من معهد البحوث والدراسات العربية بتقدير امتياز في “المشاركة السياسية للحركات السلفية في مصر”.. مطبوع.
خاض تجربة المعارضة، وتعرض للاعتقال أربع مرات منذ 2013، وهو من أبناء الحركة الإسلامية في مصر .
له مئات المقالات بموقع طريق الإسلام وصيد الفوائد وغيرهما

 

لو أردنا أن نلقي الضوء على مسيرة الصحوة الإسلامية في واقعنا المعاصر ما هي الصورة التي يمكننا تقديمها للقارئ؟

التحقيب أحد أهم أدوات التوصيف والتفسير، ومن ثم التعرف على المسارات المستقبلية. ونستطيع أن نقسم مسيرة الصحوة الإسلامية إلى أحقابٍ عدة، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود حدود فاصلة بشكل تام، ويتركز الحديث على مصر، مع إشارات لغيرها، ومصر حالة دراسة يمكن تعميمها على غيرها مع مراعاة الاختلاف.
أولها: موجة جمال الدين الأفغاني (الإيراني) و”الشيخ” محمد عبده، وانتهت هذه الموجة إلى حيث لا يريدون، فلم يستطع جمال الدين الأفغاني الوصول إلى “وحدة الأمة”، ولم يستطع “الشيخ” محمد عبده تنفيذ مشروعه الإصلاحي وإقامة رابطة (العروة الوثقى) تتجاوز حدود الدول القومية الناشئة، وانتهى سعي الرجلين لصالح المحتل الأجنبي من حيث لا يريدون، فكما يقول “البرت حوراني” أرادوا أن يقيموا سدًا في وجه الاحتلال الغربي، فأقاموا جسرًا عبر عليه المحتل. وقد رصد “ألبرت حوراني” في كتابه “تاريخ الفكر العربي في عصر النهضة” حالة النقل التي قام بها رواد التغيير في العالم الإسلامي.. بمعنى أنهم أقاموا نهضتهم (تصحيحهم) على مفاهيم غربية فكانوا في الحقيقة نقلة للفكر الغربي، وعلنا نشبع هذه النقطة لاحقًا. إن شاء الله وبحوله وقوته.


وثانيها: موجة جوهري طنطاوي ورشيد رضا، وحسن البنا، والتي ظهر معها جماعة الإخوان المسلمين بداية ثم حزب التحرير في الشام.. في سياق التعديل على الجماعة. وهذه الموجة تم إجهاضها على يد الدولة القومية الناشئة في مصر والشام. وصاحبها ظهور التيار السلفي في هيئة “أنصار السنة المحمدية”؛ وأيضًا ظهور “الجمعية الشرعية” وإن كانت لم تتبن بشكلٍ واضح النهج الصحوي.
وثالثها: موجة الأستاذ سيد قطب. وكانت هذه الموجة أشبه بالاستدراك على ما فات، وذلك أنه أعجب بنموذج عبد الأعلى المودودي فنقل أفكاره ووزعها من خلال مقالاته وكتبه، وحاول بالفعل تطبيقها. كانت محاولة للبدء من نقطة جديدة وهي نقطة الجماعة المؤمنة التي تواجه الجميع (المجتمع والدولة)، وحاول تطبيق أفكاره عمليًا لكنه لم يستطع شيئًا فقد قضي على تنظيم 1965 قبل أن يبدأ. وللأسف لا يتم قراءة التجربتين (سيد والمودودي) في سياق مقارن، مثلًا: لماذا تطورت تجربة المودودي في اتجاه سياسي ولماذا تطورت تجربة سيد قطب في اتجاه مسلح؟، ولعلنا نتعرض لذلك لاحقًا.

ورابعها: موجة الجماعة الإسلامية، والجماعات المسلحة، والتأسيس الثاني لجماعة الإخوان المسلمين، وهذه تكونت من روافد عدة أهمها: الإفادة من حالة السخط العام بعد هزيمة 1967م؛ واشتعال احتجاجات العمال والطلبة في أكثر من دولة عربية وأجنبية؛ وكذلك تطور فكرة المواجهة المسلحة مع النظم القائمة في صدور بعض الشباب من سياق سلفي (جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر)؛ والعمل الطلابي في الجامعات ومواجهة المد الاشتراكي سواءً المحلي/ الناصري، أم الدولي القادم من الاتحاد السوفيتي؛ وظهور البترول في الخليج واتجاه بعض دول الخليج إلى الاستثمار في المنهج السلفي كأحد الأدوات للتصدي للدول “التقدمية” التي سيطر على الحكم فيها العسكر من خلال “ثورات شعبية”، (كمصر وسوريا والعراق)؛ وخروج قيادات الإخوان من السجون؛ وسياق غربي دعم الحالة الإسلامية في إطار التصدي للمد الاشتراكي، ثم اجتياح السوفيت لأرض أفغانستان وبدء الجهاد ضد الحزب الشيوعي والاتحاد السوفيتي على أرض أفغانستان.

وخامسها: مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تلك التي بدأت بانهيار الاتحاد السوفيتي وما صاحبه من امتلاك الإسلاميين حضورًا دوليًا على أرض أفغانستان، والشيشان، والبوسنة والهرسك، والصومال، والجزائر؛ وانتشار السلفية العلمية في عديد من الدول، والصحوة الخليجية (السعودية تحديدًا) التي اصطدمت مع السلطة بعد قدوم الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الخليج العربي (حرب تحرير الكويت)، والمعارضة الإعلامية في لندن؛ ومن أهم معالم هذه الفترة ظهور تحول جذري في توجهات الحالة الصحوية وذلك بالتخلي عن نظرية الفئة المؤمنة التي تواجه الجميع (السلطة والمجتمع/ العدو القريب)، إلى قيادة الجماهير ضد الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين والدوليين (العدو البعيد). وظهرت هذه النظرية على يد الشيخ عبد الله عزام على المستوى النظري، وعلى المستوى العملي على يد تنظيم القاعدة.
 وفي التسعينات استقر الأمر إلى أن تشعبت الصحوة الإسلامية إلى: تيارات سياسية (الإخوان المسلمين، ثم حزب التحرير بعد أن تخلى عن المواجهة المسلحة)؛ وتيارات دعوية علمية (السلفية العلمية)؛ وتيارات مسلحة (جماعات التكفير، والجماعة الإسلامية والجهاد، ثم تنظيم القاعدة، ثم تنظيم الدولة)، وتيار أكاديمي خرج من السعودية وتبلور في هيئة

محمد المسعري

معارضة بالخارج (لندن: الحركة الإسلامية للإصلاح، وحزب التجديد).
وإن تعدد المسارات يرجع بالأساس لتعدد جوانب الإسلام، وذلك أن الإسلام بعضه عمل اجتماعي، وبعضه عمل دعوي، وبعضه جهاد، وبعضه سياسة وحكم؛ ويرجع، أيضًا، إلى طبيعة الناس، فبعض الناس لا يقبل، وأحيانًا لا يستطيع القتال، وبعض الناس لا ينشط إلا في العلم والتعلم، وهكذا، ولكن الخلل في أن الموجود ليس تخصصات وإنما تحزبات وإيمان كل فريق بأنه جماعته أو حزبه يمثل الإسلام كاملًا.

وخامسها: مرحلة ما بعد “الربيع العربي”، وأهم معالم هذه المرحلة هو حالة السيولة والدخول المفاجئ والسريع في الفعل السياسي، ثم الخروج السريع منه قصرًا.  

بخصوص إطار التفسير، أو مقولات التفسير، بعض مراكز الأبحاث المهتمة بالحركات الإسلامية في الداخل العربي، مثل المركز العربي للبحوث ودراسة السياسيات (عزمي بشارة ورفاقه)، وغيره يحاول تفسير صعود وتراجع الجماعات الإسلامية من خلال عدد من المقولات، مثل: “الدولة الفاشلة”، و” أزمة الدولة القومية”، و”الطائفية”،  فما مدى قدرة هذه المقولات على تفسير حضور وغياب (صعود وتراجع) الجماعات الإسلامية؟

لا تكاد تصغي لأستاذ يحاضر في البحث العلمي حتى يحدثك بأن النشاط البحثي يستهدف الوصف والتفسير والتعرف على المآلات فقط، والحقيقة غير ذلك. الحقيقة أن البحث العلمي قد يستهدف شيئًا آخر زائدًا عن هذه الثلاثة، وهو توجيه المتلقي. بمعنى يظهر لي بوضوح أن البحث العلمي ليس محايدًا كما يدعون. وإن وجدت حيادية فإنها تكون، فقط، في التفاصيل، لا في الاتجاه العام للبحث.

عزمي بشارة

يقصدون بالدولة الفاشلة تلك الدولة التي تغيب فيها السلطة المركزية كلية أو بشكلٍ كبير (نظام ضعيف أمنيًا وسياسيًا)، كما حدث في الصومال واليمن، وكما حدث ويحدث في العراق بعد الاحتلال الغربي 2003م، وسوريا وليبيا بعد “الربيع العربي”. ويقصدون ب “أزمة الدولة القومية”: عدم قدرة الدولة القومية في العالم الإسلامي على صهر محتوياتها وإقامة هوية جامعة لمن يسكنون على أرضها.. هوية على التراب (حدود سايكس-بيكو). ويقصدون بـ”الطائفية” الصراع المذهبي (سنة وشيعة) أو الانطلاق من شعورٍ بالتهميش كطائفة (أهل السنة) كما في العراق وسورية واليمن الآن، أو كأهل السنة عمومًا بعد أن تمدد الشيعة/ الروافض في المنطقة.
والمعنى المراد إيصاله للمتلقي من هذه المقولات أن الصحوة الإسلامية نوع من المعارضة للدولة القومية بخلفية دينية، أو مظهر من مظاهر ضعف- أو غياب- السلطة المركزية، أو مظهر من مظاهر الإحساس بالتهميش السياسي والفقر والتخلف كطائفة سنية، لا أنهم أصحاب مشروع بديل للمنظومة السائدة محليًا ودوليًا؛ بمعنى آخر، يحاولون ترسيخ أن الصحوة الإسلامية ما هي إلا حالة من حالات الاضطراب الاجتماعي المصاحب للتحول الديمقراطي في المنطقة، وأن الحل في الوصول إلى استقرار ديمقراطي، ولذا يكثرون من الحديث عن “التحول الديمقراطي”، بل جعلوه شعارًا للمرحلة.

والحقيقة أن هذه المقولات محدودة في قدرتها على تفسير عملية الصعود والتراجع المتكرر للحركات الإسلامية؛ فمثلًا: استطاع الإسلاميون الوصول للسلطة في ظل دولة قائمة وليس دولة فاشلة أو متأزمة، كما فعلت جماعات الإسلام السياسي في السودان وتركيا، وتونس ومصر بعد “الربيع العربي”، وكما فعلت طالبان على أنقاض دولة تساندها الولايات المتحدة وحلفاؤها. وفي المقابل نجد أن داعش تعرضت لإخفاقات وتم القضاء عليها من قبل “الصحوات” في ظل “دولة فاشلة” أو سلطة مركزية ضعيفة، بمعنى أنها لم تستفد بشكل تام من فشل الدولة، أو: أن حالة الفوضى لا تستلزم تمدد الحركات الإسلامية، وفي اليمن والصومال وليبيا حاليًا أمثلة أخرى على أن ضعف السلطة ليس شرطًا لصعود التيارات الإسلامية.
وأيضًا ظهرت الصحوة الإسلامية قبل إعلان الدولة القومية كنموذج للحكم في العالم الإسلامي، ولم تنشأ كأثرٍ لتعثر الدولة القومية أو غيابها كما يدعي هؤلاء، فظهر الجيل الأول (الأفغاني وعبده) لمواجهة تخلف الأمة في مقابل التقدم الغربي، وظهر الجيل الثاني (حسن البنا وأنصار السنة والجمعية الشرعية) بعد سقوط الخلافة الإسلامية 1924، وكذلك لا تستهدف الحركات الإسلامية الطوائف الشيعية وحدها، بمعنى أننا لسنا أمام صراع شيعي سني، باستثناء بعض التنظيمات المسلحة في العراق، وحتى هذه التنظيمات المسلحة التي ظهرت في العراق استهدفت جميع من خالفها من السنة والشيعة ولم تقم في وجه الشيعة فقط.

والنظم الحاكمة ذات الطابع الاستبدادي، والأحداث الكبرى التي مرت بها المنطقة، كظهور الدولة القومية الحديثة، وما تعرضت له من هزائم ونكبات وهزائم (1948، 1967)، والفقر والعوز الاقتصادي والتهميش السياسي والتخلف الثقافي، والدعم من بعض الدول، ووجود تحديات ثقافية مثل التيارات الاشتراكية،  وعامة التحولات الاجتماعية التي ظهرت مع الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي وبعده، أليست هذه كلها من عوامل الصعود والتراجع ضمن إطار الدولة القومية؟

نشأت الصحوة الإسلامية، بما فيها من جماعات وتيارات إسلامية، بدوافع أيديولوجية (عقدية) بالأساس، وهذه المتغيرات (الأسباب/ العوامل) المذكورة في السؤال متغيرات وسيطة (عوامل حفز) في التفاعلات الاجتماعية التي صاحبت الجماعات والتيارات الإسلامية، بمعنى أنها تزيد-أو تقلل- من حدة الصراع ولكنها لا تُنشئه. فحين ندقق النظر في متغيرات البيئة الداخلية فإننا نجد أنها أسهمت في صعود ظاهرة الصحوة الإسلامية، وأسهمت -في ذات الوقت- في كبحها والحيلولة دون وصولها لأهدافها. بعبارة ثانية، مارست هذه المتغيرات تأثيرًا مزدوجًا، ولم تعمل بشكل داعم فقط، كما تذهب بعض الدراسات.

فمن ناحية ساهمت نظم الحكم الداخلية ذات الطابع التسلطي/الاستبدادي في بناء الحركات الإسلامية؛ وذلك أن القمع والتهميش السياسي وانتشار البطالة والجهل وفر مبررًا لخطاب التجنيد والحشد الذي تبنته هذه الحركات، ومن ناحية أخرى ساهم القمع الذي مارسته السلطة على الإسلاميين في تحجيم نشاطهم، كما في مصر وسوريا وليبيا والعراق والخليج عمومًا؛ والصورة في الجزائر شديدة الوضوح، فقد شكل الفساد السلطوي مبررًا لتثوير الجماهير والوصول إلى حالة إجماع شعبي على تأييد الإسلاميين، ثم قامت السلطة بقمع الإسلاميين واجهاض صحوتهم. وتلقت التيارات السلفية والإسلام السياسي دعمًا من بعض دول الخليج في السبعينات، وذلك حين كان الصراع قائمًا بين الدول “الرجعية” والدول التقدمية (المحافظة/ الرجعية كدول الخليج= التي لم تقم فيها ثورات وانقلابات عسكرية، والتقدمية العكس كمصر والعراق وسوريا وليبيا والجزائر) ، ومن خلال تسمين التيارات السلفية الدعوية تم تشتيت جهد الحركات السياسية؛ وبعد ذلك تم دعم التيارات السياسية-مع استمرار دعم السلفية العلمية- من أجل تشتيت الحركات المسلحة، وفي الأخير تم القضاء على السلفيين أنفسهم ثم الإسلام السياسي. والمقصود أن السلطة عملت مع الإسلاميين حينًا وعملت ضدهم أحيانًا. وجملةً نستطيع أن نقول أنه في حال وجود سلطة مركزية قوية لا تستطيع الحركات الإسلامية النمو إلا في المساحة المحددة لها.. بمعنى في إطار التوظيف بما يخدم هذه السلطة.

و، أيضًا، عملت الأوضاع الاجتماعية في اتجاهين متضادين، فمن ناحية: شكَّلت- بما فيها من فساد خلقي واقتصادي وتخلف في عامة مجالات الحياة- مادة خصبة لخطاب التعبئة والتجنيد، واتخذت بعض الجماعات الإسلامية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للحضور الاجتماعي، فنشطت الجماعة الإسلامية، في مصر وغيرها، ضد بعض الانحرافات الخلقية مثل: الحفلات الموسيقية، ومحلات الخمور، ودكاكين الفيديو، والرحلات المختلطة بين الطلاب في الجامعات. وفي الحالة الجزائرية وفَّرت الاحتجاجات الشعبية فرصةً لظهور جماعات الإسلام السياسي والجماعات المسلحة. وفي السعودية كان التهميش السياسي، وهو أحد المتغيرات الداخلية، سببًا رئيسيًا في ظهور التيارات السياسية والمسلحة والداعمين لها ثقافيًا وإعلاميًا في الخارج (لندن تحديدًا). ووجود مساحة من الحرية السياسية والأمنية، في مصر في فترة السبعينات، كان سببًا مباشرًا في صعود الحركات الإسلامية وانتشارها في الساحة السياسية، بل تنفيذها عددًا من العمليات المسلحة ضد الدولة والمجتمع. وكما في الحالة الصومالية بعد سقوط نظام سياد بري 1991 والحالة اليمنية في فترة حكم علي عبد الله صالح، وكما في حالة الكويت فإن نشاط التيار السياسي والدعوي فيها ومنها يرجع لمساحة الحرية التي يوفرها النظام. وحدث مثل هذا في الإمارات في السبعينيات.  وليس كما يزعم بعض المحللين في مراكز الأبحاث بأن الإسلاميين حالة من الاحتجاج فقط وأنهم في حال حصولهم على فرصة سياسية سيندمجون في الديمقراطية، فالتجربة التاريخية.. في السبعينات في مصر وفي الجزائر[جبهة الإنقاذ]، وفي الكويت وفي اليمن، وغيرهم تبين أنهم حين يحصلون على مساحة فإنهم يستغلونها في توطين منظومتهم العقدية ومحاولة تغيير الواقع تبعًا لما يعتقدون.

صعود وتراجع الحركات الإسلامية

ومن ناحية أخرى: كانت الأوضاع الاجتماعية المتخلفة أحد أدوات الكبح لتطور الجماعات الإسلامية. فقد مثّل ضعف الإمكانات المادية لدى نخبة هذه الحركات أحد العوائق لتنفيذ رؤيتهم. ومن خلال تدقيق في نخبة الحركات الإسلامية نجد أنها لم تكن من الطبقات الفقيرة بالضرورة حتى يقال أنها حالة من الاحتجاج الطبقي بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والثقافية، وإنما كان بعضها من الأثرياء ومن بيئة مثقفة، مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وعامة المنتسبين للصحوة في الخليج. كما أنّ عددًا من قادة هذه الحركات كانوا من ضباط الجيش، وعديد من عناصرها من فئة الجامعيين، بمعنى أننا لسنا أمام طبقية مجتمعية تحاول دفع التميز المجتمعي ضدها. والجهل والفقر والتهميش السياسي يؤثر في بيئة العمل ويجعلها داعمة أو محبطة للفعل، وذلك حسب السياق، وأبدًا ليست هذه العوامل عوامل تأسيس وصعود على الدوام.

صعود وتراجع الحركات الإسلامية

ما أريد أن أقوله هو أن مقولات الأوضاع الاجتماعية التي يروجها دارسوا الحركات الإسلامية من العلمانيين محدودة جدًا في قدرتها على التفسير. وهم يفهمون هذا جيدًا ولكنهم يرددونها من أجل تأطير وتوجيه الحركات الإسلامية بعيدًا عن الإطار الأيديولوجي/ العقدي.

إذا ما هي المقولات الأنسب التي من خلالها يمكن تفسير صعود وتراجع الحركات الإسلامية؟

يمكن تفسير صعود وتراجع الحركات الإسلامية من خلال مقولتين: الأيديولوجيا، والمتغيرات الدولية.

بمعنى أن الأيديولوجيا والمتغيرات الدولية يفسران الصعود، وفي ذات الوقت يفسران التراجع؟

نعم هذان المتغيران يعملان في اتجاهين متضادين. الأيديولوجيا تعمل داعمةً وتعمل مثبطةً، وكذلك المتغيرات الدولية والإقليمية تعمل داعمةً وتعمل مثبطةً.

وأين المصلحة الشخصية أو الحزبية والتنافس الداخلي، الذي يصل إلى حد الاقتتال في تراجع الحركات الإسلامية؟

المصلحة الشخصية أو الحزبية، والتنافس الداخلي يصلح لتفسير بعض التفاعلات داخل إطار الحركات الإسلامية، ولكنه لا يفسر سبب ظهورها وصعودها أو تراجعها كظاهرة سياسية واجتماعية، فالحديث هنا عن الظهور في المجال العام على مستوى دولة أو على مستوى الإقليم، أو على المستوى الدولي. فالصراع الداخلي يحدث بخلفية أيديولوجية.. بمعنى أنهم يطوعون الأيديولوجيا من أجل تحقيق مكاسب شخصية، وهذا كثير جدًا، وظهر في عامة التيارات، فلا تكاد تجد تيار إلا وفي داخله صراع حاد على مصالح شخصية وكل واحد يتكئ على أيديولوجيا يصيغها في خطابه لمن خلفه ولمن في وجهه. فتجد التكفير والتبديع والتفسيق وخلاف الأولى، كلها مقولات شرعية لتبرير الخلاف الداخلي. وإن شاء الله نتطرق لصيغ العمل ونناقش فيها هذ النقطة بشيء من التفصيل.

برأيك ما هو السبب في التنوع الكبير في الأيديولوجيا، والمفترض أننا ننطلق من نص محكم البيان.. كتابًا وسنة؟!

أسباب كثيرة، من أهمها، حسب ما يقتضيه سياق الحوار: سيطرة الحركيين على الصحوة وغياب العلماء الربانيين، فالصحوة نشأت على يد حركيين من أمثال الأفغاني ومحمد عبده، وحسن البنا، ثم سيد قطب، وعبد الله عزام وأسامة بن لادن والظواهري، وأبو مصعب السوري، وهؤلاء، باستثناء سيد قطب، ارتكزوا على فكرة تحريك الجماهير ضد الواقع المرفوض للأمة الإسلامية والمتمثل في التخلف عن ركب الحضارة، والاحتلال الغربي، ثم الدولة القومية التي أوجدها المحتل. ومن خلال السلوكيات الخارجية، والمتمثلة في محاولة التواصل مع الجماهير من أجل توجيههم، تحوَّلت الأفكار والتصورات الشخصية للنخبة (الزعامة الحركية) إلى إطار أيديولوجي. ثم تحول هذا الإطار الفكري/ الأيديولوجي إلى إطار عقدي، بمعنى أنه أصبح عقيدة يؤمنون بها ويدعون الناس إليها، بل ويكفرون، أو يبدعون ويفسقون، من لم يوافقهم في رؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم وقيمهم وأدواتهم وغاياتهم باعتبار أنها هي الإسلام أو ما لا يسع المسلم جهله. فالذين اتخذوا المسار السياسي وسيلة رفضوا غيرهم أو انتقصوهم، والذين اتخذوا الوعظ والتعليم وسيلة رفضوا غيرهم أو انتقصوهم، والذين اتخذوا العمل المسلح وسيلة رفضوا غيرهم وقاتلوهم، وهكذا حتى أصبحت مسارات مختلفة وليست تخصصات كما يزعم بعض الدارسين.

عن المحرر

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *