الرئيسية / ملفات ساخنة / إنصاف الحجاج القائد الفاتح وتفنيد الافتراءات عليه الحلقة10

إنصاف الحجاج القائد الفاتح وتفنيد الافتراءات عليه الحلقة10

إنصاف الحجاج القائد الفاتح

وتفنيد الافتراءات عليه

الحلقةالعاشرة

 

الأستاذ محمد أسعد بيوض التميمي

 

شبكة وا إسلاماه الإخبارية

  توصلنا من الأستاذ الفاضل محمد  أسعد بيوض التميمي كتابه الجديد  عن  الحجاج بن يوسف الثقفي   دراسة تاريخية استهدف من خلالها  إنصاف هذا القائد المسلم المفترى عليه وقد استغرقت منه سنوات من البحث والتدقيق  في مراجع التاريخ  ليقدم للمكتبة التاريخية والإسلامية دراسته   المدعمة بالأدلة   التي نفذ من خلالها كافة المفتريات التي ألصقت بالحجاج   عن الحجاج    عليه  فأننا ننشرها على حلقات…. إماطة اللثام عن الوجه  الآخر للحجاج  القائد المسلم

  ونفتح باب النقاش  العلمي الرصين لمن أراد   أن يدلي بدلوه  في هذا الإتجاه  بغية أثراء النقاش..جاد  في الإتجاه الذي يخدم  العلم والحقيقة وبيانها …

82

المهمة الثالثة

المهمة الثالثة التي كلف بها الحجاج من قبل الخليفة عبد الملك بن مروان هي هي اخماد الفتن والثورات  التي عجت  بها العراق والتي كادت ان تعيد العراق الى الفرس المجوس 

فقبل الحديث عن  قيام الحجاج بإخماد الفتن في العراق وإعادته الى سلطان  الخلافة الأموية وإعادة الأمن والأمان له لا بد من الحديث عن الوضع الخطير الذي ال اليه العراق  قبل تولي الحجاج امره وولايته وكيف تم اختياره لتولي ولاية العراق حيث انه كان لا بد من رجل بمواصفات خاصة لا تتوفر الا في  الحجاج لإصلاح وضعه وإعادة الأمور فيه الى نصابها ,  حيث كان  العراق على وشك أن يعود الى ما كان  عليه قبل الفتح مجوسي  فارسي   فأثار فيه  أتباع عبد الله بن سبأ  الفتن وجعلوه بيئة خصبة للصراعات والفتن  , فلم يستكين لولي ولم يخضع لسلطان منذ الفتنة الكبرى بين معاوية وعلي , ويُذكر أن العراق في ذاك الوقت كان يُطلق عليه العراقيين وهما (البصرة والكوفة) فلم تكن بغداد بعد قد أنشئت …

فكانت  الكوفة   ملاذ  الشيعة الروافض  أبناء واحفاد أتباع عبد الله بن سبأ الذين قتلوا عمر رضي الله عنه و ثاروا على عثمان رضي الله عنه وقتلوه  والذين قتلوا علي  وابنه الحسين  رضي الله عنهما ويتربصون بالمسلمين الدوائر ويتحينون الفرصة للانقضاض على الإسلام والقضاء عليه بالضربة القاضية ولكن الله تكفل بحفظ دينه ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين  فبعث الله عليهم الحجاج صاحب البأس الشديد والحاسم والحازم وغير المتردد ولا تأخذه في الله لومة لائم ولا يحسب للقيل والقال  ولا للدهماء حساب

ووبالإضافة الى السبئين المجوس كانت البصرة مكمن  الخوارج   بثوراتهم  المتلاحقة  , وقد عجز كل من تولى امر العراق قبل الحجاج  عن إخماد الفتن المشتعلة فيه بل

83

يقومون بخلع الوالي مما كان يرفع معنويات أصحاب الفتنة ويزدادون شراسة وتمردا واستخفافا بالدولة الأموية وولاتها ومن هؤلاء الولاة بشر بن مروان أخ عبد الملك بن مروان  الذي فشل فشلا ذريعا  عن ايقاف تلك النزعات والقضاء على هذه الفتن ,ولم يتمكن من اقرار الامن في هذه البلاد حتى وصل بهم الأمر الى خلع الخليفة عبد الملك بن مروان نفسه والخروج عليه ,وكان عبد الملك قد تنبه لهذا الامر فمال الى عزل أخيه عن ولاية العراق قبل أن تفلت زمام الامور وتعم الفوضى وتتجدد الثورات ولكن قدر الله كان اسبق فتوفي بشر بن مروان عام 74 هجري فما كان من عبد الملك إلا أن اختار من هو أقدر على التصدي لهذه الفتن  والقضاء  عليها  , فاختار الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق في هذه السنة, وعلى أكثر الروايات  صدقا  أن الحجاج تولى أمر ولاية العراق قبل أن يتوفى بشر ,وقد رفعت وفاة بشر الحرج عن عبد الملك في عزل  أخيه

وقبل أن يتولى الحجاج ولاية العراق دار حوار بين الخليفة عبد الملك بن مروان والحجاج وهذا الحوار يدل على مدى شعور عبد الملك بن مروان بخطورة الوضع في العراق والهاجس الذي يشكله له واراد من هذا الحوار أن يتأكد من قدرة الحجاج على اخماد الفتنة المشتعلة في العراق حتى يطمئن بأنه اهلا لهذه المهمة الخطيرة والتي لا تحتمل الفشل  كما فشل الذين من قبله لأن الفشل يعني الكارثة فكان الحجاج هو السهم الأخير في جعبة وكنانة عبد الملك فإن طاش  فسينتهى حكم وسلطان بني امية في العراق والى الأبد

فما هو الحديث الذي دار بين الحجاج وعبد الملك بن مروان مما جعل عبد الملك يقتنع بتوليته العراق وبأنه سينجح  في  مهمته وكان هذا الحوار بمثابة امتحان للحجاج قبل ان يوليه وحتى يتأكد بأن اختياره للحجاج موفق وبمثابة كتاب تكليف حددت فيه المهمة  وخطورتها واعطيت فيه التعليمات والصلاحيات   ؟؟

84

فجمع عبد الملك بن مروان  قادته  ومستشاريه واهل الحل والعقد  ,  وبدأ  حديثه معهم قائلا  لهم  

((لا أريد حديثاً  بغير  شأن  العراق  ,  فلا يشغلني شاغل غيره ,ولهذا جمعتكم هنا فإن العراق قد كدُر ماؤه وكثُر غوغاؤه وعظم خطبه وعسر اخماد نيرانه , فهل من مُمهد للعراق بسيف قاطع وعقل جامع وقلب ذكي ,فيخمد نيرانه وينتصر  لمظلومه  فتصفوا البلاد وتأمن العباد , من من  من  منكم لهذا الأمر ؟؟

فلم يرد احد من الموجودين على عبد الملك الا الحجاج

فنهض واقفا في مكانه

فقال يا  أمير المؤمنين  أنا  لها أنا للعراق

فقال له عبد الملك أنزل يدك يا حجاج

فقال عبد الملك مالي أرى الرؤوس مطرقة والألسنة معتقلة

فقال الحجاج يا مولاي إني للعراق وإني   قاهر   الفساق   ومطفيء  نار النفاق

فقال له عبد الملك لا أراك لها يا حجاج

فقال الحجاج إني قاسم الظلمة ومعدن الحكمة وأفة الكفر والتوبة

فقال له عبد الملك لست لهذا يا حجاج فأنزل يدك

وقال عبد الملك من للعراق

فأجاب الحجاج أنا للعراق

85

فقال عبد الملك أردتك أخر المتكلمين   يا حجاج   , وسألت ثلاثة فما نطق بالتلبية غيرك أظنك صاحبها ولكل شيء أية وعلامة ,فما أيتك وعلامتك في هذا؟؟

فقال الحجاج  العقوبة  والعفو  , والاقتدار  والبسط, والادناء والابعاد ,والجفاء والبر ,والوفاء والتأهب ,والحزم والحيطة ,والعزم وخوض غمرات الحروب ,ومن نازعني قطعته ,ومن خالفني قسمته ,ومن جادلني نزعته ,ومن دنا مني أكرمته ,ومن طلب الأمان أعطيته, ومن سعى للطاعة نجيته ,هذه  ايتي وعلامتي ,وما عليك يا أمير المؤمنين إلا أن تبلوني فإن كنت للأعناق قطاعاً وللأرواح نزاعاً وللأمة جماعاً ولك  نفاعاً  , وإلا فليستبدل بي أمير المؤمنين غيري, فالناس كُثر ولكن من يقوم في هذا الامر قليل

فقال عبد الملك أنت لها يا   حجاج  , فما الذي تحتاج اليه

 فقال الحجاج قليل من الجند والمال

وبالفعل سنرى لاحقا وفي ما سيتقدم من الكتاب كيف استطاع الحجاج ان يطفيء نار الفتنة في العراق بنجاح منقطع النظير ودون إراقة الدماء وبأقل الخسائر وبعكس ما يفترى عليه وسنرى عند قيام الحجاج  بالقضاء على الفتن  وعلى كل من قام بالخروج على الخليفة عبد الملك بن مروان في العراق  كيف قد اخذ العبرة من الذي جرى ما بين الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وبين رؤوس الفتنة الذين خرجوا عليه حيث استعمل عثمان رضي الله عنه معهم اللين والحلم وضبط الأعصاب  حيث كان يحاورهم ويعظهم ويستجيب الى مطالبهم  ولكن رغم كل ذلك لم يتخلوا عن اهدافهم ومخططاتهم الجهنمية بل كانوا يزدادون اصرارا واضمارا للشر مما جعل امرهم يتفاقم حيث اعتبروا ذلك ضعفا وتهاونا منه ومما جعلهم يجدون المجال متاحا لهم فيتجشعوا ويتجرؤوا على قتله فدفع  عثمان رضي الله حياته ثمنا لذلك ودفع من بعده المسلمون ثمنا غاليا فقتلوا من بعده  علي  وابنه الحسين رضي الله عنهما  واشعلوا فتنة كبرى بين علي ومعاوية راح ضحيتها كثير من الصحابة  ولا زلنا نعاني منها الى الأن فلو استعمل عثمان معهم الشدة والحزم والحسم بقطع رؤوس  زعماء الفتنة السبئيين   لتخلص المسلمون من شرهم وقضى على الفتنة في مهدها التي امتدت الى عهد علي

86

ومعاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان فكان لابد لهذه الفتنة من رجل حاسم حازم شديد لا تأخذه في الله لومة لائم لا يعرف الحوار ولا النقاش ولا اللين مع دعاة الفتنة الذين اشعلوا فتنا كثيرة اريقت فيها دماء كثيرة  من المسلمين وقتل فيها خلفاء وصحابة وكادت ان تعصف بالدولة الإسلامية فكان هذا الرجل هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أخمد الفتنة بقطعه رؤوس زعماءها فشدة الحجاج وحزمه وسطوته وعدم تردده بتنفيذ وعده ووعيده أخمدت نيران الفتنة وأخرست زعماءها واوقف سفك الدماء التي سفكت  بسبب هذه الفتن ولم تتوقف الا بالقضاء عليها  واعاد للدولة الإسلامية الأموية أمنها وامانها ووحدتها واستقرارها وهيبتها وجعلها تستأنف الفتوحات حتى بلغت الدولة الأموية في عهد الحجاج اوج عظمتها واتساعها ونهوضها وتقدمها في جميع المجالات العلمية والحضارية  وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل في ما يلي

فما هي الثورات والفتن التي أخمدها الحجاج في العراق ليُعيد لها الأمن والأمان   والاستقرار , وليعيدها طائعة لخلافة بني أمية وتبايع عبد الملك بن مروان من جديد عندما تولى الحجاج امر العراق , كان  يعلم على علم وبينة بتفاصيل كل ما يجري في العراق وعلى علم بنفسية أهلها وروحهم المتمردة  كما تحدثنا سالفا   , فهم مغرمون بالخروج على الولاة  ويستخفون بهم  وبكل من يبدي لهم اللين , فكان لابد له بأن يظهر لهم الشدة والقوة وعدم اللين  وأنه اذا قال فعل وبأنه سيبطش بكل من يمشي بالفتن ويخرج عن طوع امير المؤمنين وخليفة المسلمين عبد الملك بن مروان الذي كلفه بمهمة إطفاء الفتن واخماد نيرانها فأخمد فتنة الكوفة والبصرة بلسانه ملوحا بحسامه غير ضارب به الا اذا اضطر وفي اضيق نطاق وغير باغ ولا عاد  لذلك سنجد أنه استخدم كلمات وعبارات في مخاطبة اهل العراق حادة كحد السيف قاطعة حاسمة بتارة مفعمة بالنذير والتهديد والوعيد  .

لذلك  كان  هناك  اختلاف  بين  خطبة الحجاج في مكة بعد اخماد ثورة وتمرد عبد الله بن الزبير رحمه الله وأسلوبه في مخاطبة أهل مكة ,وبين خطبته لأهل العراق وأسلوبه في مخاطبته لهم ,فنوعية الناس تختلف ,فجعل لكل مقام مقال ,فلم يتوعد أهل مكة كما

87

توعد اهل العراق ,ولم يُخاطبهم بأهل الشقاق والنفاق وهكذا قام بإخماد فتنة الكوفة دون إراقة دماء الا دما واحدة صاحبها كان من المستكبرين والمستخفين بالحجاج وبه ارعب الحجاج من خلفه حيث انه كان شيخ من مشايخ بني تميم اكبر قبائل العرب فلو حسب له حساب وتردد في قطع رأسه لاستخفافه بوعيده ونذيره للحق به خلق كثير من الناس, واندلعت  في وجهه نار فتنة ستصعب عليه المهمة وممكن أن يفشلها وستجعل الحجاج يظهر بمظهر الذي يقول ولا يفعل فيستخف به الناس فعندما وجدوا بأنه لا يكترث بأي منزلة اجتماعية لأي شخص يستخف به جعلهم يفكرون الف مرة قبل مخالفة تهديده ووعيد وإنذاره لهم  …

فلقد عنفهم  الحجاج  بألفاظ   يأباها  كل حُر ,وكان هذا يوم الحجاج الذي أثبت فيه أنه ما عزم وقرر إلا نفذ, وما قال إلا وفعل ,فلو لم يُواجه الحجاج هذه الشرذمة بهذا الحسم والحزم وعدم التردد لاستخف  به أهل العراق ولهان أمره بينهم وعصوه ولم يمتثلوا  لأوامره ولما أطاعوه ,ولما استطاع أن يُخمد الثورات ويُخمد الفتن ويقضي على الفوضى ,ولفشل فشلا ذريعاً ,ولسقط من عين الخليفة عبد الملك بن مروان فعزله

فما أوتي الحجاج من ذكاء ودهاء  وعقل وحكمة  وفصاحة وبيان , استطاع أن يعرف أهل العراق وما جبلت عليه أنفسهم وطويتهم  , وأن يعرف طبائعهم ونقاط الضعف فيهم ومراكز القوة ,فعمد فيهم الى النفس البشرية الأمارة بالسوء, فأرهبها بصمته وأنطقها بسكوته ,قرظها وتوعدها بأن يُعالجها ويُصلحها ويجعلها تستقيم  بالسيف ,فبشدته وحزمه وحسمه  , أذهب خيلاءهم وأذهل عقولهم والجم ألسنتهم ,وبين لهم قوة شخصيته ورباط جأشه ,وثبات عزيمته وقدرته على مواجهة شرورهم ووئد فتنهم ,وبدّد عصيانهم ,وبين هوانهم عليه واستخفافه بهم بعد أن كادوا أن يستخفوا به…

88

وبعد أن اخمد الحجاج نار الفتن في العراق أتخذ إجراءات لضبط إيقاع المجتمع بما يعيد له الأمن والاستقرار كل ذلك يندرج تحت اسم (قانون  الطوارئ ) في العصر الحديث في أثناء الحروب أو عند الأحداث الجلل  أو لحِفظ  أمن البلاد  فمن هذه الإجراءات حرّم عليهم الاجتماع (حظر تجول)ليمنع تردد الاشاعات واستعار الفتن ,وشدد في عقوبة التخلف أو الهروب من ميدان الجهاد , ,وما كان الأمر يستتب للحجاج في العراق دون هذه الشدة في ظل محاربة الخوارج وجنوح أهل العراق الى الخروج على الخلافة   وفي ما يلي سنتحدث كيف اخمد الحجاج الفتنة في العراق وبداية من الكوفة

 

89

الحجاج وإخماد فتنة الكوفة

لقد كانت طريقة ظهور الحجاج في الكوفة اول مرة وطريقة إخماده للفتنة  تدل على ذكاء ودهاء منقطع النظير واعظم دليل بأن الحجاج  لم يكن سفاكا للدماء متعطشا لها كما يزعمون ويفترون عليه الذين شوهوا تاريخه فقد تعجبون بأنه أخمد فتنة الكوفة بخطبة واحدة  بل  وقد تعجبون بأنه لم  يقتل في إخماد فتنتها الا واحدا فقط لا غير وهو عمير بن ضابيء التميمي وسنشرح قصته في سياق  هذا الحديث  ولماذا قتله  فهو لم يستخدم القوة مع اهل الكوفة وليس كما رسخ في العقول بأنه استباح الكوفة واخذ ضربا بالأعناق ودون شفقة ولا رحمة وانه اغرقها بالدماء هكذا يعتقد الناس نتيجة الافتراء على الحجاج ولكن الحقيقة غير ذلك تماما

فالحجاج تعامل مع اهل الكوفة بطريقة نفسية فيها علاج لنفسيتهم المتمردة والتي لا يمكن ان تعالج الا بالترهيب دون الترغيب والوعيد والنذير والتهديد دون الصفح والقوة والشدة دون اللين والحسم والحزم دون تردد وهذا ما يدل عليه في طريقة ظهوره في العراق وخطابه لهم في مسجد الكوفة

90

كيف دخل الحجاج الكوفة

 لقد دخل الحجاج الكوفة بهدوؤ ودون ضجيج او استعراض للقوة لإرعاب أهلها  فهو لم يهاجم الكوفة بجيش جرار وعاث فيها الفساد واغرقها بالدماء  بل عندما دخلها  لم يكن معه الا اثنتا عشر رجلاً وكان ذلك في عام 75 هجري  وتوجه فورا الى مسجدها مسجد الكوفة الذي بناه سعد بن ابي وقاص بطل القادسية بأمر من امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعندما دخل المسجد لم يحتك بالناس وانما فورا قام باعتلاء  المنبر  , وكان  مُلثما بعمامة حمراء , وهو يتوشح  سيفه  وقوسه  ,واخذ ينادي  في الناس (( هلموا  الي أيها الناس ))

 ثم صمت  بُرهة  من الزمن لا يتكلم , مُكتفياً بالنظر اليهم بنظرات حادة فأثار فضولهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه

 ولكنه أطال السكوت مما زاد من توترهم  وانفعالاتهم  حتى ظنوه بأنه عاجز عن الكلام والتعبير وظنوا أنه قد أصيب   بالارتباك  من الموقف فأخذ الاستخفاف به يتسلل الى نفوسهم التي هي أصلا جبلت على الاستخفاف بالولاة

فقال أحدهم: أأحصبه؟؟ أي أرميه بحصاة  ….

فقالوا: انتظر قليلا  حتى  ننظر

ثم أطال الحجاج   صمته وهو ينظر اليهم , مما احدث جلبة  وهمهمة بين الناس

وقال بعضهم إنه الأمير الجديد ووالي بني أمية

91

وأخذوا يلعنون بني امية همسا بينهم    ,فكيف  يستعملون مثل هذا المعتوه , وضيع الله العراق حيث يكون هذا أميرها , فو الله لو دام هذا أميراً كما هو لما كان بشيء

لعنه الله ولعن من  ارسله  ,أرسل الينا غلاماً لا يستطيع أن ينطق عياً ,قاتله الله ما أغباه وأذمه , وأخذ  بعضهم الحصى بيده ليرميه بها

وبينما هُم في هذا الحال النفسي والحيرة من امرهم , انتفض الحجاج  واقفا شامخا  فكشف عن وجهه  اللثام  فرفع السيف في وجوههم واطلق للسانه العنان , واخذ يبرق ويرعد ويعذر ويُنذر ويتهدد ويتوعد وهو يُزمجر كالأسد الهصور واخذ يخاطبهم بالقصيدة المشهورة  وهي ليست للحجاج وانما استعارها لما فيها من معاني واعتزاز بالنفس وتهديد ووعيد فهي قصيد للشاعر سحيم بن وثيل الحميري وهو شاعر مخضرم عاش أربعين عاما في الجاهلية وستين عاما في الإسلام

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا          متى أضع العمامة تعرفوني

صليب العود من سلفي نزار      كنصل السيف وضاح الجبين

هذا أوان الشد فاشتد زيم          قد لفها الليل بسواق حطيم

ليس براعي   ابل  ولا غنم           ولا بجزار على ظهر وضم

قد لفها  الليل  بعصلبي               أروع خراج من الدوي

قد شمرت عن ساقها فشدوا       وجدت الحرب بكم فجدوا

وليس القوس فيها وتر عرد       مثل ذراع البكر أو أشد

أما والله إني لأحتمل الشر بجمله    وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله

وإني لأرى رؤوسا قد أينعت      وحان قطافها وإني لصاحبها

92

واني لأنظر الى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى

إني والله يا أهل العراق ومعدن   الشقاق   والنفاق   ومساويء الاخلاق لا يغمز جانبي ولا يقعقع لي بالبنان

وإن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها وأشدها مكسراً فوجهني اليكم ورماكم بي فإنه قد طالما أوضعتم في الفتن وأضجعتم في  مراقد  الضلالة  ,  وسننتم سنن البغي

وايم الله لألحدنكم  لحد  العصا  ولأقرعنكم   قرع المروة  ولأضربنكم  ضرب غرائب الابل ,فإنكم كأهل قرية(كانت أمنه مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون))

إني والله لا أعد  إلا  وفيت  , ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت وأياي وهذه الزرافات والجماعات وقيل وقال وما يقولون وفيم أنتم وذاك

أما والله لتستقمن على طريق  الحق  أو  لأدعن   لكل رجل منكم شغل في جسده وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم عطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن ابي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أن أخذ عطاءه بثلاث أيام إلا وضربت عنقه)

فدب الرعب والخوف في قلوبهم واخذوا يتحسسون رؤوسهم حيث سمعوا كلاما لم يسمعوه من قبل اخترق نفوسهم المتمردة واحدث فيها

93

الأثر المطلوب من قبل الحجاج  حتى انه لم يجرؤ أحدا منهم أن يناقش او يعترض ولو ببنت شفه على ما سمع فاذا به يخمد هذه الفتنة بخطبة واحدة وبكلمات حادة حد السيف قاطعة مانعة اغنته عن إراقة الدما ء وكفته شر القتال ولم يريق الا دما واحدة كما قلنا انفا واليكم حكايتها ولماذا اراقها 

فبعد هذه الخطبة المليئة بالتهديد وبالوعيد , أتى شخص الى الحجاج يشكو له أحد شيوخ القبائل وانه استهان به وبأمر الوالي ولم يلتحق بجيش المهلب بن ابي صفرة كما طلب الحجاج في خطبته ,فأرسل الحجاج في طلبه فإذا به (عمير بن ضابيء  الحنظلي التميمي) من أشراف الكوفة وزعيم بني تميم

وعندما مثل أمام الحجاج قال له الحجاج ما الذي أخرك عن اللحاق بجيش المهلب

فقال  عمير : أصلح الله الأمير أنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير وعليل وابني هذا أشد مني

فقال الحجاج هذا خير لنا من أبيه

94

ثم قال ومن أنت قال أنا عمير بن  ضابيء التميمي

قال الحجاج هل  سمعت  كلامنا بالأمس

 قال   عمير  نعم

فقال الحجاج ألست أنت الذي غزا عثمان بن عفان اي انت من الذين قتلوا عثمان

قال بلى

قال يا عدو الله أفلا الى عثمان   بُعثت  بدلاً  ؟ فما حملك على هذا؟

قال انه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً

قال الحجاج   أوليس   الذي   يقول

هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان يبكي حلائله

إني أحسب أن في قتلك صلاح البلدين (الكوفة والبصرة) وانه لقبيح بمثلي أن يكون كذاباً أن أقول وأهدد وأتوعد ولا أفعل

95

فأمر الحراس أن يضربوا عُنقه , فضربوا عُنقه وصادر ماله لبيت مال المسلمين…

فكان قتل الحجاج لعمير بن ضابيء التميمي زعيم بني تميم ومن اشراف الكوفة رسالة قوية ومرعبة  الى  اهل الكوفة  مضمونها أن تهديده ووعيده جد لا هزل فيه , وأنه يوفي بما يقول ويعد ويتوعد وأنه لا يهاب أحدا او يحسب حساب احد من الناس مهما بلغت منزلته الاجتماعية , ولم يكتفي بقتله بل و أمر منادياً في الكوفة  يُنادي ألا أن عميراً بن  ضابيء  أتى بعد الثالثة وكان قد سمع النداء فأمرنا بقتله ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب

وفي اليوم   الثالث  , وبينما الحجاج في قصر الولاية ,فإذا بجمع غفير في السوق يُكبروا تكبيراً عالياً ,فسمع الحجاج تكبيرهم فخرج اليهم ودعا الناس الى المسجد فصعد المنبر وقال

(يا أهل العراق إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يُراد به وجه الله ولكنه التكبير الذي يُراد به  الترهيب  , وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف يا بني  اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى ,ألا يربع رجل منكم على ظلعه ويحسن حقن دمه ويرفع قدمه, فأقسم بالله لأوشك أن أقع بكم وقعة تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها)

96

وبعد أن أطفأ  نار الفتنة في الكوفة واعادها الى بيعة الخليفة عبد الملك بن مروان وأعاد لها الأمن والأمان كان لا بد أن يكمل المهمة وهي إخماد فتنة البصرة 

عن المحرر

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *