الرئيسية / روضة الأدب / قصيدة مجهولة لمصطفى صادق الرافعي

قصيدة مجهولة لمصطفى صادق الرافعي

مصطفى يعقوب عبد النبي- مصر.

.

يحلو لكثير من الكتاب وهم يتحدثون عن الكاتب الكبير عباس محمود العقاد أن يشيدوا بعصاميته، وأنه قد حفر بأظافره في الصخر، ورغم أنه لم ينل من التعليم المدرسي سوى الشهادة الابتدائية إلا أنه صار واحدا من أبرز الأدباء العرب في العصر الحديث.  وقد فات هؤلاء الكتاب أنه يوجد من الأدباء من هو أشد في عصاميته من العقاد، بل هي حالة فريدة في عصاميتها المفرطة وهو الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، الذي لم ينل هو الآخر سوى الشهادة الابتدائية، فقد اجتمع عليه نقص بعض الحواس لديه، إذ كان أصم لا يسمع، فضلا عن كونه حبيس الصوت إثر مرض أصابه، ومع هذا فقد كان من أبرز الأدباء في العصر الحديث أيضا. ومن يطالع سيرة حياته فسوف يجد أنه كان فذا  في نبوغه كما كان فذا  في عصاميته رغم نقص الطبيعة لديه، وللأسف الشديد كان على هذا الأديب النابغ أن يكابد عيش الحياة وضيقها، وأن يبدع في فنون الأدب في نفس الوقت، لذا فليس من الغريب أن يكون أصدق ما قيل في رثائه، ذلك الرثاء الذي نظمه الشاعر محمود حسن إسماعيل فيه، إذ يفتتح رثاءه مخاطبا مصر عاتبا عليها فيقول:

     لم يطب  للنبوغ   فيك  مقام         لا عليك ـ الغداة ـ مني سلام

    المنارات تنطفي  بين  كفيـ          ـك! ويزهو بشاطئيك الظلام

    أنت (يا مصر) واصفحي إن تعتبـ     ـت وأشجاك من نشيدي الملام

     قد رعيت الجميل في كل شيء      غير ما أحسنت به الأقلام(1)

ولقد عوض هذا الأديب النابغ جحود بني قومه حياله في حياته، أن قيض الله أديبا يسجل حياته ليكون كتابا مفتوحا أمام الأجيال والناشئة كدرس رائع عن تغلب الإرادة على نواقص الطبيعة وقدرة العزيمة على ضعف الوسيلة، وهذا الأديب هو محمد سعيد العريان، أما الكتاب فهو؛ “حياة الرافعي” الذي استقى من مادته كلّ من تعرض للرافعي أو كتب عن أدبه. ويكفي دليلا على أهمية هذا الكتاب قول الأستاذ محمود محمد شاكر عنه في تقديمه للكتاب: “أشهد لهذا الكتاب بأنه قد استقصى من أخبار الرافعي كثيرا إلى قليل مما عرف عن غيره؛ وتلك يد لسعيد على الأدب العربي. ولذلك كان كتاب “سعيد”عن حياته من الجلالة بالموضع الذي يسمو إليه كل مبصر، ومن الضرورة بالمكان الذي يلجأ إليه كل طالب”(2).

وعن حياة الرافعي يقول سعيد العريان ما ملخصه: “أن الرافعي ولد في يناير سنة 1880م لأسرة سورية الأصل اشتهر أفرادها بتولي القضاء سواء في مصر أو في سوريا، ونشأ ـ كأبناء جيله ـ فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين، وحفظ شيئا من القرآن، ووعى كثيرا من أخبار السلف، فلم يدخل المدرسة إلا بعد أن جاوز العاشرة من عمره. وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائيةـ وهي كل ما ناله من الشهادات الدراسية ـ أصابه مرض، فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه لأثرا كان حبسة في صوته ووقرا في أذنيه من بعد.. وتضاءل صوته شيئا بعد شيء، وفقد إحدى أذنيه السمع ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه. وامتد الداء إلى صدره فعقد عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام.

وكانت لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتا من نوادر كتب الفقه والدين والعربية فأكب عليها فاستوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد. وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيرا عليه وبركة، وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديبا من أدباء العربية في غد.

وفي أبريل سنة 1899م عين الرافعي كاتبا بمحكمة طلخا ـ إحدى مدن الوجه البحري بمصرـ الشرعية، ثم انتقل إلى محكمة طنطا الأهلية حتى وفاته. وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه أن يجحد منزلته أو ينال منه أي نيل. وحدث ذات مرة أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثوا، فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس ورفع كتابا إلى وزارة العدل يبلغها أن في المحكمة كاتبا أصم، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح، وكثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل، وطلب في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة.

وأرسلت وزارة العدل مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، وكان المفتش هو الشاعر حفني ناصف الذي اجتمع بالرافعي واستمع إليه، وكتب تقريره إلى وزارة العدل يقول فيه: “إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود. إن للرافعي حقا على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية. إن فيه قناعة ورضا، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه، دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتن ويبدع لهذه الأمة في لآدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخي في غير هذا المكان.

وفي 9 مايو سنة 1937م؛ يسلم الرافعي الروح فجأة دون علة ظاهرة أو مرض ألم به”(3).

مؤلفاته وملامح أسلوبه:

إن من يقرأ الرافعي سوف يلاحظ دون شك أسلوبه المميز الذي يدل عيه وحده ، فالرجل هو الأسلوب كما يقال، فله من قوة العبارة الشيء الكثير، وله من سلامة اللغة الحظ الوفير، كما له من جمال الصياغة وفن البلاغة القدر الكبير، وقد يغالي أحيانا في استنباط المعاني للدلالة على الفكرة فيأتي بها قدر من الغموض. يقول الدكتور شوقي ضيف: “قد يجري الغموض والالتواء في جانب من كتابته، وهما طبيعيان لمثل هذا الكاتب الذي كان يسرف في التعمق والتغلغل في معانيه إسرافا تنوء به اللغة، فلا تنهض بما يريد أحيانا، غير أنها حين تواتيه، يجتمع لتعبيره جلال الإدراك العقلي وجمال الأسلوب اللفظي، إذ كان له ذوق مهذب مصفى وحس دقيق مرهف وعقل يقتدر على التجريد والتوليد والنفوذ إلى العلاقات والدلالات البعيدة”(4).

يقول صاحب “الرسالة” الأديب أحمد حسن الزيات: “عملت في الرافعي عوامل الوراثة والبيئة والدراسة والعاهة، واتفق له من كل أولئك ما لم يتفق لغيره، فكان أفقه العلماء في دينه وأعلم الأدباء بلغته، وواحد الآحاد في فنه، والدين واللغة والأدب هي عناصر شخصيته، وروافد عقليته وطوابع وجوده، لذلك كان يقظ الرأي شاهد الحس لما يعلق بثلاثتها من أباطيل وشبه.

الرافعي أمة وحده، لها وجودها المستقل وعالمها المنفرد ومزاجها الخاص، وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه، إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه، وفهم إعجاز الفن في بيانه، وأدرك سر العقيدة في إيمانه(5).

ومن أهم مؤلفات الرافعي:

1 ـ تاريخ آداب العرب: وهو مؤلف ضخم من ثلاثة أجزاء، اختص الجزء الأول منه، والذي صدر في سنة 1911م؛ بتاريخ اللغة ونشأتها، وكل ما يتصل بتلك النشأة، بالإضافة إلى تاريخ الرواية ومشاهير الرواة …إلخ.

واختص الجزء الثاني والذي صدر في السنة التالية  بالقرآن الكريم من حيث اللغة وإعجازه، لذا فقد سماه “إعجاز القرآن والبلاغة النبوية”.

أما الجزء الثالث الذي صدر في سنة 1940م أي بعد وفاته، فقد اختص بجملة من فنون الأدب كتاريخ الشعر العربي والتأليف عند العرب وفنون النثر…إلخ.

2 ـ حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وجميعها تدور حول الحب وأحواله وفلسفته ومعانيه.

 فـ “حديث القمر” كتاب أصدره بعد رحلة إلى لبنان  في سنة 1912م، عرف الرافعي فيها شاعرة من شواعر لبنان، وكان بينها وبين قلبه حديث طويل في الحب؛ فلما عاد من رحلته، وجد نفسه في حاجة إلى أن يقول فقال، فكان “حديث القمر”(6).

أما “رسائل الأحزان” فهو كتاب أملاه عليه كبرياؤه في نوبة غضب أصابته عندما أبطأت عليه الأديبة الشهيرة مي زيادة، والتي كان يحبها في صمت، في الحديث إذ إنها كانت تحدث شاعرا غيره وهو المرحوم إسماعيل صبري(7). وعندما حدثت القطيعة بينهما ـ أي بين الرافعي ومي ـ أنشا كتاب “السحاب الأحمر” الذي يدور في معظمه حول فلسفة البغض وطيش الحب ولؤم المرأة (8).

وعندما هدأت ثائرة الرافعي وفاءت إليه نفسه وعاد إلى حالة من الرضا والغضب والحب والسلوان كتب “أوراق الورد“، وهو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب والجمال(9).

3 ـ تحت راية القرآن، وقد أصدره الرافعي في سنة 1926م للرد على ما جاء في كتاب طه حسين الشهير “في الشعر الجاهلي”، وقد أغلظ القول لطه حسين متهما إياه في دينه على نحو معروف ومشهور.

4 ـ على السفود، وهو كتاب كان الرافعي قد نشره تباعا في مجلة “العصور” التي كان يصدرها الأديب إسماعيل مظهر، على هيئة مقالات نقدية في شعر العقاد حملت نفس الاسم، وحمل فيه على العقاد حملة شعواء ناعتا إياه بأوصاف لو قيلت الآن لوجب على صاحبها الوقوف أمام القضاء بتهمة السب والقذف العلني.

ومن الواضح أن الرافعي الذي كان يهيم حبا في “مي” ساءه أن يكون العقاد منافسا له في ذلك الحب، فكان ما كان بينهما من خصومة لا تهدأ وعداوة لا تلين ظاهرها النقد وباطنها خلاف ذلك. ولعل أبلغ دليل على أن منافسة العقاد للرافعي في حب “مي” كانت السبب الذي يطل من وراء ستار في هذا النقد العنيف الذي جاوز حدود النقد إلى السباب، تلك الرسالة التي أرسلها العقاد إلى “مي” وهو في  “أسوان” مسقط رأسه معتذرا لها عن عدم حضوره إليها يوم الثلاثاء ـ وهو الموعد الذي يجتمع عندها الأدباء كل أسبوع ـ لأنه يستثقل بعض الحاضرين. ثم ذكر لها الرافعي قائلا: “ماذا يعجبك في هذا الرجل الثقيل الأصم، إنني أعرف أنك لا تعيرينه انتباها، وتكرهين تحببه إليك، وتمقتين غزل الشيوخ بالشباب… والأولى أن تعتذري عن حضوره، وإني أفضل أن يكون لقاؤنا في غير الثلاثاء”(10).

إذن فنقد الرافعي للعقاد في “على السفود” لم يكن خالصا لوجه النقد، بل كانت له دوافعه البعيدة عن النقد.

قصيدة مجهولة: 

جاء في “موسوعة الشعر العربي الحديث والمعاصر” للدكتور يوسف حسن نوفل فيما يتعلق بنتاج الرافعي الشعري: “ديوانه ج 1ـ 3، شرحه محمد كامل الرافعي  ( 1319 ـ 13120هـ / 1903ـ 1906م )، وديوان النظرات ج1 و ج2، 1908م، النشيد الوطني المصري 1920 ” (11) .

وقد كانت لكاتب هذه السطور مساهمة متواضعة في الكشف عن مسرحية شعرية مجهولة، لم يسبق لأي من الباحثين والكتّاب ـ على كثرتهم ـ أن أشار إليها، حتى إن الأديب محمد سعيد العريان الذي كتب أهم كتاب عن الرافعي، وهو “حياة الرافعي” لم يشر بدوره إلى تلك المسرجية المجهولة.  وقد تفضلت مجلة “جذور” التي تصدر عن نادي  جدة الأدبي،  مشكورة بنشر النصّ الكامل لتلك المسرحية(12).

نخلص من هذا لنقول: إنه قد أتيح لنا أن نعثر في بعض دور الكتب القديمة بالقاهرة على كتاب تذكاريّ نادر صدر في سنة 1945م بمناسبة إحياء ذكرى العالم اللغوي والمحقق الشهير أحمد تيمور، تحت عنوان “ذكرى أحمد تيمور باشا ” ضم بين دفتيه ما قيل في هذا الحفل من خطب وقصائد شعرية. وقد جرت العادة في مثل هذه الكتب التذكارية أن تطبع في عدد محدود للغاية من النسخ، لأنها ليست معروضة للبيع، وإنما الهدف منها توثيق ما قاله الخطباء والشعراء.

ولقد عثرنا في هذا الكتاب على قصيدة نظمها الرافعي في حينها إثر وفاة أحمد تيمور سنة 1930م، وقد ظلت هذه القصيدة في طي النسيان، وحسنا فعل القائمون على هذا الحفل بضم تلك القصيدة المجهولة التي تنشر الآن لأول مرة بضمها في هذا الكتاب التذكاري النادر، والقصيدة بعنوان “كما يرى في جسمه السبع” وهو عجز أحد أبيات القصيدة.

ولعل في نشر هذه القصيدة المجهولة، خير تحية لروح هذا الأديب الكبير؛ مصطفى صادق الرافعي-رحمه الله.

ـــــــــــــ

الهوامش:

1 ـ هكذا أغني، محمود حسن إسماعيل، ص97.2 ـ حياه الرافعي، محمد سعيد العريان، ص4.3 ـ المصدر السابق، ص 28 وما بعدها.4 ـ الأدب العربي المعاصر في مصر، د.شوقي ضيف، ص 247.5 ـ الرسالة، العدد 202، 17 مايو 1937م، مصطفى صادق الرافعي، أحمد حسن الزيات، ص3 .6 ـ حياة الرافعي، مصدر سابق، ص 74 .7 ـ المصدر السابق، ص 102 .8 ـ المصدر السابق، ص 133 .9 ـ المصدر السابق، ص 140 .10ـ المرأة في حياة العقاد، د.عبد الحي دياب، ص 76 .11ـ موسوعة الشعر العربي الحديث والمعاصر، د. يوسف حسن نوفل، ص 959 .12 ـ مسرحية مجهولة لمصطفى صادق الرافعي، مصطفى يعقوب عبد النبي، جذور، العدد 23 صفر 1427 هـ، ص 257 ـ 361 .

ــــــــــــــــــــ

عن المحرر

شاهد أيضاً

الأدب المقارن: المفهوم والتطبيق أ.د. حلمي محمد القاعود

 الأدب المقارن: المفهوم والتطبيق! المؤلف: أ.د. حلمي محمد القاعود الناشر : دار النشر الدولي – …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *