الرئيسية / المنبر الحر / البِرُّ عملا والبِرّ منزلةً والبر جزاءً الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني

البِرُّ عملا والبِرّ منزلةً والبر جزاءً الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني

الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي الحسني

لا شك أن الدعوةالإسلامية تمر بمرحلة عسيرة من مراحل مسيرتها الإنسانية، وظروف قاسية شحذ فيها خصومها أسلحتهم لاستئصال الدين والتشكيك فيه، والصرف عن اتِّباعه، وعرقلة إقامة أمره الجامع، وهي ظروف تتجدد دوما في كل عصر، لما حُمِّلَتْه هذه الأمة من أمانة الدعوة والشهادة، وما لها من قابلية للاستمرار والبقاء والتجدد والمواءمة لكل ظرف، وما حباها ربها به من استعصاء على الاندثار والانتقاض، ولما تواجهه بسبب ذلك من المتواطئين على الباطل والمتمادين في الضلالة، والممعنين في الخصومة والعدوان، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ). لذلك كان من مقاصد الوحي الكريم أن يزود المسلمين بأدوات للبناء والحماية والمدافعة مهما تغيرت الأحوال وتعاقبت الأجيال، كي يحتفظ كيانهم العقدي ونظامهم العام بحيويته ومناعته وقدرته على الاستمرار والعطاء.
ولئن كان حتما لكل سبيل مقصد يؤمه، ولكل مشروع غاية يبلغها، ولكل عمل هدف ينتهي إليه، ولكل توجه بوصلة تحدد موقعي وروده وصدوره، تلافيا لأي إهدار للجهد والوقت، أو تسيب في التصرف والعمل، أو اضطراب واختلاج في الخطو، أو تيه وضلال في الطريق، فقد حدد رب العزة تعالى أعلى ما ينبغي أن يطلبه المسلمون ويسعون إليه فرادى ومجتمعين، وأشرف ما يجب أن يبذلوا جهودهم لتحقيقه وتحصيله، كي يستعدوا للأمر، ويشحذوا له العزائم، ويعدوا له الأسباب والذرائع، وأوجز كل ذلك في كلمة واحدة جامعة لخيري الدنيا والآخرة هي:” البر”، فقال سبحانه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ آل عمران 92.
والبر هو الإحسان وكمال الخير وشموله، من أصله اللغوي الذي هو التوسع فى فعل الخيرات، ورد في هذه الآية الكريمة مطلقا ومعرفا ب”ال”، للدلالة على شموله أفعالا كثيرة من حيث مضمونها وكميتها، وهو من المرء يعني الصدقَ والطاعةَ المؤدِّيَيْن في الدنيا إلى حالة إيمانية يبلغها بالمجاهدة، عقيدة سليمة واضحة، وعبادة منضبطة بأوامر الشرع ونواهيه، ووفاء بعهد الله في السر والعلن والنوايا والمقاصد، ومشاعر طيبة تحب لله وتبغض لله. وهو من الله تعالى يعني جزاءه للمرء على الطاعة بدخول الجنة إكراما وإحسانا، قال تعالى: ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ المؤمنون 111، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ العنكبوت 58.
ولئن كانت أعمال البر غاية سَعْيِ المؤمنين الأبرار، فإن كمال البر جائزتُه تعالى لهم، قال عز وجل:﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ المطففين22/26، وقال:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ الإنسان 5/8.
إن هذه الآية الكريمة تربط أعمال الدنيا بنتائجِها وعاقبتِها في الآخرة ربطا منطقيا عادلا، وتُبَيِّن بكل وضوح أن الإنفاق بغير إيمان ولو كان ملء الأرض ذهبا لا يقبل ولا يرفع إلى درجة الأبرار في الدنيا، ولا يُنيل برَّ الآخرة الذي هو الجنة، يمنع من ذلك الشرك والإعراض عن منهج الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ آل عمران 91، أما إنفاق المؤمن في كل أوجه الخير مهما قل فعبادة مقبولة تنيلهبر الله وإكرامه وفضله وجنته:﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ آل عمران92.
ولئن كان الإنفاق الواجب في الزكاة مقدرا ومن طيب المال:﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾ البقرة 267،، فإن الإنفاق التطوعي المقبول مقيد بوجوب كونه في سبيل الله ومن أحب ما لدى المرء وأطيبه، ولم تشترط فيه قلة ولا كثرة، ولا نوع أو صنف، لاختلاف ما يحبه الناس وما يملكونه، وما يستطيعون بذله، قال تعالى:﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾الطلاق7، وقال: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾ التوبة 121، وقال صلى الله عليه وسلم:(أفضل الصدقة جهد الـمُقِلِّ)، وقال:(اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وقد ورد عن ابن عباس أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا وما الذي ننفقه منها فأنزل الله تعالى:﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو﴾ والمراد بالعفو ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق به ولا ما يأكل. وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحَثَّ على تجهيز جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، قال: ثم حَثَّ، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، قال: ثم نزل مرْقاة من المنبر ثم حثَّ، فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما على عثمان ما عمل بعد هذا). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق وزانية وغني، فأُتِيَ فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله). ذلك لأن العبرة في الإنفاق بالقصد والنوايا، وطيب المكسب، وحلّية الانتفاع، مما لا يعلمه حق العلم إلا الله تعالى، ولذلك عقب عز وجل بقوله:﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ يعلم مقاصد المنفقين ومكاسبهم ومقدار استجابة إنفاقهم لما رغب فيه الشرع، وما يستحقونه من جزاء.
إن الله تعالى عندما بين أن إنفاق غير المؤمن لا ينفعه البتة في الآخرة، قد أرشد عقب ذلك إلى كيفية الإنفاق النافع في الآخرة بقوله:﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، إلا أن ذلك وحده ليس كافيا لبلوغ منـزلة الأبرار والفوز بالجنة، لأن للبر شعبا وأعمالا وعبادات أخرى لابد من ارتيادها والانقياد لتكاليفها وأوامرها ونواهيها، واستجماع خصال الخير فيها، وتتويج كل ذلك بالإنفاق في سبيل الله. وهذا يقتضي أن من أنفق مما يحب ولم يأت بسائر الطاعات الأخرى لم يدخل تحت الآيات الدالة على عظم ثواب الأبرار. لذلك ورد التعبير في الآية بكلمة “حتى” الغائية: ﴿ حَتَّى تُنْفِقُوا ﴾ أي أن الإنفاق مجرد نهاية الغاية بعد صفات البر الأخرى، التي بينها الوحي الكريم في سياقات كثيرة من القرآن الكريم، كقوله عز وجل:﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ البقرة 177، وقد خرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان فتلا:﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ حتى فرغ منها، ثم سأله أيضاً فتلاها، ثم سأله فتلاها وقال:(وإذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك).
إن المرء إذا عرف ما قصد هان عليه ما لقي في الطريق من المحن وما وجد، ومن كان المال هدفه فوجده عكف عليه وركع بين يديه، ومن كان المنصب همه وغايته انكفأ عليه وسجد له، ومن كانت وجهته الله تعالى ورضاه ثبت متمسكا بصراطه المستقيم، لم يصرفه عنه رغب أو رهب أو فتنة، ولم يثنه عنه إغراء شهوة أو منفعة أو جاه. لذلك بين رب العزة لأوليائه غاية سعيهم ومآل أعمالهم وحدد لهم الهدف الذي ينبغي أن يكون نصب أعينهم، لا يضلون عنه ولا ينسونه، وهو بره تعالى بهم ورضاه عنهم وإحسانه إليهم في الآخرة وإدخالهم الجنة وقال: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وفي ذلك تثبيت لهم على الحق وحماية لهم من مكايدات المبطلين ومحاولاتهم الصرف عن الدين، لاسيما وهم يتحينون كل فرصة للطعن في الإسلام نبوة وعقيدة وأحكاما، ويتصيدون كل شبهة لبلبلة صف المسلمين وتشكيكهم فيما لديهم من الحق.

  • فضيلة الشيخ  عبد الكريم مطيع الحمداوي مؤسس الحركة الإسلامية في المغرب
  •  موقع الشيخ قطاف الخطى وثمار السعي
  • https://alhamdawi.com

عن المحرر

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *