الرئيسية / روضة الأدب / من ملامح الرواية التاريخية عند باكثير الثائر الأحمر.. وفشل المشروع القرمطي-2-3

من ملامح الرواية التاريخية عند باكثير الثائر الأحمر.. وفشل المشروع القرمطي-2-3

من ملامح الرواية التاريخية عند باكثير الثائر الأحمر..

وفشل المشروع القرمطي

الحلقة الثانية

 

أ.د. حلمي محمد القاعود

إن الكاتب يطلعنا بامتداد الرواية، على أعماق شخصية “حمدان” وتفاعلها مع الأحداث، فنرى شخصية تتنازعها رغبة الخير والعدل والسلام من ناحية، والغضب الانتقام من ناحية أخرى، ويعلل الكاتب لذلك بوجوب الظلم الفاحش الذي يولد الانفجار ويدفع إلى العنف وسفك الدماء بعد التخلي عن الدين والقيم والأعراف، أي إن شخصية حمدان كان يمكن أن تكون عامل خير في بناء المجتمع لو توفر العدل أو شيء منه، ولكن الإسراف في الظلم، حول الشخصية الخيرة بطبيعتها إلى شخصية شريرة، خالفت سيرتها الأولى، وميراثها عن الأب والأم الصالحين، بل والزوجة الصالحة المحبوبة، يصور الكاتب “حمدان” في بداية الرواية فيقول: “كان حمدان في نحو الخامسة والثلاثين من عمره قوي البنية جلداً على العمل، بشوشاً لا تكاد الابتسامة تفارق شفتيه في أحلك الساعات وأهوال الخطوب؛ ولكنه يحمل وراء هذا الخلق الرضي، وهذا الثغر البسام، قلبا يضطرم بالثورة على تلك الأوضاع التي يراها جائرة لا يجوز لبني جلدته أن يتحملوها صابرين، ولا يعتبرها إلا فترة من فترات الظلم والاضطراب لا يمكن أن تستقيم عليها حياة الناس، فلا ينبغي أن تستمر طويلاً كان يعتقد أن ما بناه المال والنفوذ لا يمكن أن يهدمه إلا المال والنفوذ، فأنى له هذا وهو لا يكاد يملك عيشة الكفاف لنفسه ولعياله إلا بمشقة وجهد، وبعد أن يقدم لسيده “ابن الحطيم” أضعاف ذلك من كد عامهم”.
وبالرغم من كل الأحداث الدامية التي مر بها حمدان، أو مرت بها دولة القرامطة، فإننا نراه في نهاية الرواية يبدو وقد عاد إلى طبيعته الأولى التي يصنع الخير نسيجها، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد وصوله إلى مرحلة مأساوية.. فها هو يفرج عن أخته عالية، ويبيح لها أن تفتن نساء العاصمة عن مذهبهن كما تشاء… ثم يبطل “ليلة الإمام” ولم تستطع “شهر” تلك المرأة التي تستخدم جسدها في الغواية والدعوة إلى المذهب الباطني، أن تؤثر في “حمدان” أو تعيده إلى حظيرة المذهب، بل إنها وأخته راجية تفاجآن به يعلن براءته من المذهب وعودته إلى الدين الحنيف، وعندما تسمع بذلك أخته “عالية” تسر سرورا عظيما، وتنطلق إلى قصره لتهنئه فتجده “قائما يصلي في خشوع فما ملكت دمعها من الفرح”[8].


وهكذا يصور “باكثير” شخصية “حمدان” في صورته الإنسانية الطبيعية التي تتأثر بالظلم وتثور عليه لدرجة الخروج عن الدين الحنيف، ولكن التجارب التي مرت بها هذه الشخصية تكشف كيف صنع المتآمرون على الدين من هذه الشخصية وأمثالها، وسائل لتحقيق أغراضهم في التدمير والتخريب والقتل.. إن المذهب الذي يدعو إليه الباطنيون “القداحيون” يبدو في ظاهره دعوة إلى العدل والحرية، ولكن هذه الدعوة لا تتحقق أبداً، بل تخلف وراءها المزيد من الدمار والأحزان والمتاعب، وتتجاوز ذلك إلى تلويث الفطرة الإنسانية بسلوكيات تأباها هذه الفطرة وترفضها، وهو ما نراه ينعكس في رد الفعل لدى شخصيات الرواية، وعلى رأسها شخصية “حمدان” رئيس الدولة، من ذلك مثلا موقفه في “ليلة الإمام” وهي من ليالي المشهد الأعظم، حيث يجتمع الرجال والنساء في ليلة مخصوصة من العام فيشربون ويطربون، ثم تطفأ عليهم المصابيح فيقع كل على من يليه في ذلك الظلام الدامس، فاتفق أن وقع حمدان على ابنته “فاختة” فلما وقعت يدها على لحيته لم تملك أن قالت: “يا سوء حظي” وقع من نصيبي الليلة شيخ كبير فعرف حمدان صوتها، فجرها وخرج بها من المشهد، وغضب غضباً شديداً وعزم على إبطال المشهد الأعظم ومنعه البتة لولا أن شهراً اعترضته، وما زالت به حتى عدل عن عزمه، ولكنه حرم على ابنته أن تشهده، حتى غلبته شهر على أمره[9]، وهذا الموقف يبين لنا أن غيمان حمدان بالمذهب، كان إيماناً سطحيا لم يتجاوز إلى القلب، وكان الدافع إليه في كل الأحوال الإحساس بالظلم والرغبة في القضاء عليه، وهو ما أشار إليه المؤلف في أكثر من موضع، منها على سبيل المثال، وصفه لموقف حمدان من الإمام المعصوم، يقول: “لم يؤمن حمدان بالإمام المعصوم الذي يدعو إليه الأهوازي ولم يكلف نفسه عناء التثبيت في أمره ليتحقق وجوده أو عدم وجوده، وإنما آمن بالهدف الذي ترمي إليه هذه الدعوة الجديدة إذ كان هو هدفه من قبل، هؤلاء قوم يدعون إلى هدم سلطان المال على هدى وبصيرة، ويسيرون في ذلك على خطة عامة لا تقتصر على بلد دون بلد، وقد أدركوا أن ذلك لا يتم إلا بهدم هذه الدولة التي يقوم عليه أو تقوم عليه، فليكونوا من يكونون وليكن مذهبهم ما يكون فحسبه أنه سيعمل على تقويض سلطان المال وكفى، وقد انضم قديما إلى العيارين من أجل هذا الأمر فلن يكون العيارون خيراً من هؤلاء ولا أهدى سبيلاً[10].
ولكن الانخراط في صفوف الدعوة جعل حمدان وغيره يفرط في كل دينه كما تقضي بذلك تعاليم المذهب، وبعد هذا التفريط، فللقرمطي أبو الباطني أو القداحي أن يفعل ما يشاء، ويستحل ما يشاء، وإن كانت الفطرة السليمة عند تطبيق المذهب ترفضه، وتستشعر مدى ضراوة الظلم الذي جاء معه، وهو على كل حال، ظلم يفوق الظلم الذي صنعه الإقطاعيون من أمثال “ابن الحطيم”.

لقد عاش حمدان مع المذهب في حالتي المد ولجزر، فتعامل معها بمشاعر الإنسان الفطري الذي تتآمر عليه جهة ما، بالظلم، فيقع في أحضان جهة أخرى أشد ظلماً، ويبدو كمن يستجير من النار بالرمضاء، حتى يصل إلى نهايته المأساوية، إنه إذاً شخصية واقعية طبيعية لها محاسنها ومثالهبا.
في نفس الإطار تبدو شخصية “عبدان” ابن عم “حمدان قرمط”، فقد كان إنساناً عاديا يمارس التجارة، لكن خطف “عالية شقيقة “حمدان”، وخطيبته، يزرع في نفسه الحقد على طبقة الإقطاعيين التي يمثها ابن الحطيم” خاطف خطيبته، ثم تدركه التحولات التي مرت على حمدان، ولكن من طريق آخر، حيث يتخفي بعد ارتكاب جريمة قتل الشرطة في داره بالاشتراك مع حمدان، ويستقر به المطاف في بغداد عاصمة الخلافة، يقدم نفسه كطالب علم نابه يناقش شيوخه وأساتذته في قضايا العدل والظلم وموقف العلماء منهما ومن السلطة، ويجد فيه دعاة الباطنية القداحية من خلال شخصية “جعفر الكرماني” ورفيقته “شهر” صيدا ثمينا يساعد على نشر المذهب، باعتباره حاقدًا على الدولة وناقماً على الظلم، عن طريق الغواية يتخلي عن دينه وقيمه باعتبارها ميراثا متخلفاً، ويسقط في حمأة الدعوة الباطنية القداحية، وشيئاً فشيئاً يتحول إلى فيلسوف ينظر للدعوة، ويرجع إليه في أمورها، ويصبح مستشاراً للدولة القرمطية القائمة على مذهب الباطني القداحي، وتتحدد مهمته في الدفاع عن المذهب وتبرير أخطاء التطبيق حتى ما قبل النهاية المأساوية التي حاقت به عندما اكتشف حقيقة الإمام المعصوم أو المهدي المنتظر، حيث يجده حفيد القداحي نفسه (!) فيتمرد عليه، بيد أن أعوان القداحي يتولون – بالخداع – أمر القضاء عليه بعد تعذيبه، واستخدامه كورقة ضغط على حمدان حاكم دولة القرامطة، المتمرد على الإمام!.
وشخصية “عبدان” بتكوينها أقرب إلى المزاج المنحرف، وأسرع استجابة للانحراف من شخصية حمدان، وقد بدا ذلك في مواقف كثيرة، أهمها موقفه من العلاقات الجنسية الفوضوية التي يجندها المذهب ثم تبريره للأخطاء والنكسات التي أصابت المذهب عند التطبيق بمنطق جدلي سفسطائي، يسعى إلى الدفاع عن وجهة نظره بأية وسيلة.. المهم أن يثبت صحة ما يذهب إليه، ولعل موقفه من تبرير ضعف الحافز أو الإنتاج لدى الفلاحين في مملكة العدل الشامل خير مثال على ذلك، فقد تحدث الفلاحون إلى حمدان بالصدق عن الأمر، وأرجعوا ضعف الحافز إلى شدة الظلم، واستمتاع الغير بثمرة جهدهم وعرقهم، ثم- وهو الأخطر- يأسهم من الإنصاف في يوم ما.. قال حمدان لعبدان ذات يوم: ” ما تقول في هذا الذي تراه؟”..
– هؤلاء يحنون إلى الظلم من طول ما عاشوا فيه، وهم يجتوون العدل لأنهم ما ألفوه.
– ولكنهم كانوا مبتهجين في بداية الأمر.
– إنما كانت تلك لذة الانتقال من حال إلى حال، ولا يطول أمدها، وقد أخبر النبي عن قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
– أو تذكر النبي يا فقيه الدعوة وأنتم لا تؤمنون به؟
– لا ضير أن نذكره حين نحتاج إليه، وإننا لا نستغني عنه.
– فقل إذن: صلى الله عليه وسلم.
– فسكت عبدان قليلا واصفر وجهه وظهر عليه التخاذل ثم ابتلع ريقه وقال: صلى الله عليه وسلم وعلى الإمام المعصوم.. هذا حديث ينطبق على حال هؤلاء، وما أخال النبي إلا يعنيهم.
– ألا تدع حديث النبي يشرحه من يؤمنون به، وتأخذ أنت في شرح أقوال إمامكم؟
– ويحك يا حمدان إنك قائد الدعوة، وما ينبغي لمثلك أن يرتاب في إمامها الحق.
– إنكم قوم لا تعدلون.
– فيم يا ابن عمي؟
– لقد كنا نؤمن بنبينا والأنبياء من قبله فشككتمونا فيهم فما قلنا شيء، وجئتم بإمامكم الجديد فيغضبكم أن نشك ولو بعض الشك فيه، أفهذا من العدل؟
– ولكنك تعلم يا حمدان أن الناس إذا بلغهم أنك تشك في إمامك فسينفضون عنه وعنك.
فهز حمدان رأسه وهو يقول: “دعنا من حديث الإمام فليس يشغلني أن يكون حقا أو باطلاً.
– إني أريد جنة لا يقاد الناس إليها بالسلاسل.
– ذلك مطلب بعيد المنال، فهذه طبيعة البشر لا تغلب.
– فما يمنعنا أن نجاري هذه الطبيعة في نظامنا؟
– كلا، لابد من كبح جماحها لصلاح الناس وسعادتهم.
– ففيم إذن أبطلتم الحدود في الشهوات وأطلقتم للناس فيها العنان؟
– ما يكون لنا أن نمنعهم من لذة تهفو إليه طبيعتهم.
– فهؤلاء كما رأيت وسمعت قد فقدوا لذة العيش في هذا النظام.
– دع عنك هذه الوساوس يا ابن عمي فلا ريب أنك قضيت على الظلم، وحققت العدل إذا أقمت نظاماً جديداً لا سلطان للمال فيه، وإن هذا لهو الذي كنت تصبو إليه من زمن بعيد، فما عدا مما بدا.
تنهد حمدان ولم يجب”[11].

وهذا المثال على طوله، يوضح كيف يلعب “عبدان” بالكلمات ليبرر سلامة مذهبه الفاسد،ويقنع ابن عمه حمدان قائد الدولة بصواب موقفه، ويقم حججا ومبررات لا يقبلها العقل السليم، مثل إيلاف الظلم، أو الحنين إليه لدى الفلاحين، واستشهاده بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وهو لا يؤمن به، وحرصه على عدم الإساءة للإمام المعصوم، وتبريره لإطلاق العنان لشهوات الناس.. إلخ، كل هذا يؤكد انحراف شخصية “عبدان” أو استجابتها للانحراف بصورة أكبر من استجابة شخصية حمدان..
ولكن شخصية عبدان في كل الأحوال تبقى رمزاً للمنهج في صورتيه النظرية والتطبيقية، وهذا الرمز يؤكد على فساد المنهج أو المذهب، وقيامه على أسس من المغالطة والأكاذيب لإشباع رغبة عارمة في الانحراف والتمرد لدى أبطاله أو رواده.
والأمر نفسه ينطبق على “راجية” شقيقة “حمدان” قائد الدولة، فقد كشف لنا المؤلف عن طبيعتها الميالة للانحراف، حيث نفست على أختها خطيبها “عبدان” وتطلعت إلى “ثمامة” العيار بالرغم من علمها بأخلاقه وطباعه الفاجرة، ثم سقطت مع “حسين الأهوازي” داعية المذهب القداحي، وحملت منه سفاحاً، وانتعشت بتطبيق المذهب، في جانبه المتعلق بإشاعة الفوضى الجنسية، لدرجة الشذوذ، والرغبة في ابن أخيها – الغيث – وهو محرم عليها – واتفاقها مع “شهر” رائدة “الغواية” في المذهب على الدفاع عن “القرمطة” حتى آخر لحظة في حياة الدولة.
كذلك فإن شخصيات الصف الثاني في دولة القرامطة من أمثال ذكرويه وعطيف النيلي وجلندر الرازي، تمثل صوراً للانحراف، والانتهازية، والبحث عن الغنائم، والمهمة الرئيسية لهذه الشخصيات، إثبات فشل المذهب وعدم قدرته على الاستجابة لمطالب الناس، فضلا عن فشله في تحقيق العدل والحرية، لأن الحرية كانت حريتهم وحدهم، والعدل مكفولاً لهم وحدهم، أما غيرهم فلا يملك حرية ولا ينال عدلاً، ولا يستطيع أن يشكو، لأنه لو فعل، فإن التهمة الجاهزة بالنسبة له، هي: سب المذهب، وتلك خيانة عظمى جزاؤها القتل!.

(4)
في مقابل الشخصيات السابقة التي قامت بالثورة وصنعت لدولة نجد فريقا آخر يعتبر الأب الشرعي لهذه الشخصيات، ويضم هذا الفريق نوعين من الشخصيات.
النوع الأول: يمثل دعاة الباطنية أو القداحية أو المحرضين على الثورة.
النوع الثاني: يضم اليهود أو ممولي الدعوة.
من النوع الأول شخصيات “جعفر الكرماني”، و”شهر”، و” أبو هاشم بن صدقة” الكاتب، و”حسن الأهوازي” والقداحي الحفيد الذي كان يسمى نائب الإمام ثم كشف عن نفسه بأنه الإمام المعصوم وهذه الشخصية اعتمدت على العمل السري، واستثمار موقف الدولة لصالحها، واستغلال نقاط الضعف فهيا لدرجة أن أبا هاشم بن صدقة الكاتب، كان يعد بمثابة الوزير الأول أو رئيس الوزراء، في دولة الخلافة ولم يعلن عن نفسه كواحد من زعماء المذهب وظل يعمل سراً لحساب دعاة الباطنية حتى انكشف أمره بعد حين.
أما النوع الثاني من شخصيات هذا الفريق، فتتمثل في عزرا بن صمويل، وإسرائيل بن إسحق، ويوشع بن موسى، ومهمتهما تتضح من خلال تمويل النوع الأول للقيام بدوره في تجنيد الأتباع للدولة الجديدة والاستفادة بجو الاطمئنان الذي تتيحه الدولة العباسية لليهود وأهل الكتاب بصفة عامة، فيتاجرون، ويكسبون، ويثرون ثراء عريضاً لدرجة إقراض الدولة ذاتها.. كل هذا ييسر لهم سبل السيطرة على المراكز الحساسة في دولة الخلافة، والاقتراب من تحقيق أهدافهم.
وواضح أن شخصيات هذا الفريق بنوعيه تبدو كشخصيات ثانوية لم يحتفل الكاتب برسم ملامحها الداخلية وأعماقها الشعورية، واكتفى ببيان دورها في الأحداث باعتبارها شخصيات جاهزة.. ويمكننا على كل حال، أن نراها شخصيات غامضة، وهو ما يتفق مع دورها في العمل السري الذي يحرص على الكتمان والاختفاء، وتحريك الأحداث من وراء ستار، وينطبق ذلك على الدعاة من شخوص النوع الأول، واليهود من شخوص النوع الثاني.
إننا لا نعرف طبيعة أو أعماق شخصية “جعفر الكرماني” مثلاً، ولكننا نجده شخصية جاهزة للعمل،تتميز بالذكاء والوعي الحاد، ومهمتها التقاط الأنصار وتجنيدهم، كما فعل بالنسبة لعبدان وهو لا يتحدث عن نفسه، ولا نعرف عنه إلا القليل.. والأمر كذلك بالنسبة للمرأة التي ترافقه تعمل معه وهي “شهر”، فهي غانية، تتفنن في أداء دورها لغواية من يجندهم “الكرماني” وتبذل كل ما في طاقة الأنثي لخدمة المذهب مع الأنصار والأتباع، ويمكن القول إن شخصيات
هذا النوع من الدعاة للمذهب الباطني يظهرون من خلال أقنعة، ومن خلال شخصيات مزدوجة، تظهر أمام الناس بشخصية تختلف عن الشخصية الحقيقة، وربما كانت مزدوجة، تظهر أمام الناس بشخصية تختلف عن الشخصية الحقيقية، وربما كانت شخصية “حسن الأهوازي” أصدق مثال على ذلك، فعندما ذهب إلى منطقة القرامطة، ظهر في صورة شيخ خواص من أهل الصلاح والتقوى، يتبرك به الناس، يلتمسون منه الدعاء، وعندما يصطفي “حمدان” لدعوته، تبدو شخصيته الحقيقة، حيث يكشف عن نفسه، ويعلن عن غايته وهدفه، ويدعو للإمام المعصوم، ويتحدث عن الرخاء والعدل..[12].


وكذلك الحال بالنسبة لليهود، فشخصياتهم جاهزة، ولا يبدو منها إلا ما يحرك الأحداث، كما نرى عندما انفضح سرهم، وظهرت مؤامرتهم الخبيثة ضد الدين والدولة، وإن كنا نرى من خلال استجوابهم مدى ما تكنه جوانحهم من مكر وخداع ومخاتلة، وحرصهم على أن يكون له سرهم الذي لا يعرفه أحد غيرهم، ولذا نجد الكاتب يحرص على كشف سلوكهم السري من خلال دفاترهم كتجار، ومن بينها وثيقة تحدد غايتهم بالنسبة للدولة الإسلامية، ويحسن هنا أن نورد ما كتبه المؤلف.. يقول: “ثم أخذت دفاتر الوكلاء اليهود وأوراقهم التي طلبها المعتضد تصل إليه من الآفاق، حيث تمت عنده في خلال شهرين، وفحصوها فوجدت كلها مؤيدة لما في دفاتر عزراً وأوراقه، وعثر بينها على رسالة صغيرة في حجم الوصية المكتوبة بالعبرية فجيء بمن يفك رمزها فتبين أنها سجل شركة خطيرة أسسها جماعة من كبار تجار اليهود بمدينة الموصل في أواخر عهد الخليفة المأمون، على أن تبقى قائمة طوال العصور يديرها أبناؤهم، وإذا لها دستور عجيب ينص على وجوب تشجيع الفتن في بلاد الدولة وإمداد القائمين بها، والسعي لإثارة الحروب بين أمراء المسلمين، وبينهم وبين الروم، وتأريث نار الخلاف بني الطوائف والمذاهب والنحل، والإفادة من كل ذلك في تجميع الأموال وتكثير الأرباح لشركتهم، وظهر من الأوراق الملحقة بالسجل الأصلي أن والد عزرا كان رئيس الشركة في عهده، وأن رئيسها الآن يوشع بن موسى في “الطالقان”، هو الذي وجد السجل عنده، وأن هذه الجماعة كان لها يد في حركة بابك الخرمي، وأثر في حركة الساميين والطاهريين وغيرهم، وأنهم اتصلوا بعبد الله بن ميمون القدح وشجعوه…[13]
وكما نرى فإن اليهود، مع دعاة الباطنية يمثلون شخصيات مساعدة تحرك الأحداث وتصنعها من وراء ستار،وإن كان النسيج القصصي لا يسمح لها أن تظهر بصورة أبعد من ذلك لتكشف أعماقها الإنسانية وأغوارها البشرية، لأنها تخدم الشخصية الأساسية وهي شخصية “حمدان قرمط” بطل الرواية.
ونستطيع أن نلحق بالشخصيات السابقة (الثائرين والمحرضين) مجموعة من الشخصيات الهامشية، التي تسهم في الأحداث بصورة ما أن أو تلعب دوراً ما، وبالرغم من تواضع هذا الدور، فإن مهمته تكمن في توضيح ملامح الصورة الروائية أو البيئة الروائية التي تجري على مسرح الأحداث، هذه المجموع تمثل شخصيات العيارين والشطار،وهم فئة من الناس هالهم ما يرون من الظلم الذي يلحقه الإقطاعيون المترفون بالناس وبخاصة الفلاحين الأجراء فليس لهم من ثمار كدهم وكدحهم إلا ما يمسك الرمق، فضلاً عن ظهور الإقطاعيين بمظهر الانحلال الفاجر، الذي لا يحفظ حرمة ولا يصون شعوراً، ومن أبرز هؤلاء الإقطاعيين “ابن الحطيم وابن أبي الهيصم”، وقد استعانوا على انحلالهم الفاجر وفسادهم الداعر، بكل ما يحفظ عليهم سلوكهم المشين، فعملوا على احتواء الولاة بالرشاوي حتى يسكتوا عن جرائمهم، واصطفوا لأنفسهم من الحراس والرجال الأشداء ما يمنعهم من المظلومين والموتورين، وشيدوا القصور التي تحجبهم عن عامة الناس ويمارسون فهيا الرذيلة، وينعمون بالترف الزائد عن الحد… كان لابد من رد فعل يقوم به العيارون ضد الفساد الإقطاعي، ويتمثل في قيامهم بغارات سلب ونهب ضد ممتلكات الإقطاعيين، والعودة بما سلب ونهب على الفقراء والمساكين، فضلاً عن إيمانهم بالنجدة والشهامة، واعتقادهم بأن ما يقومون به تجاه الملاك الظالمين هو نوع من العدل يحققونه بأنفسهم بعد أن تأخر عدل الدولة كثيراً لدرجة اليأس..
وشخصية العيار ذات وجهين، وجه يظهر به أمام الناس، وهو الوجه الحقيقي، أما الوجه الثاني، فهو مرتبط بالليل، واللثام، والشراسة، وذلك عند الإغارة على قصور الإقطاعيين وممتلكاتهم.. فقد تجد أحدهم في صورة شيخ جليل مهيب يتحلق حوله الناس في المسجد، ليعظهم ويعلمهم ويفقههم في دينهم ودنياهم، وعندما يهبط الظلام يتحول إلى شخصية أخرى عنيفة وحادة وشرسة، وهي تغير على أحد قصور ابن الحطيم أو ابن أبي الهيصم.. كذلك فإن العيارين يعيشون حياة مزدوجة، حيث يظهرون أمام الناس في صورة متقشفة بسيطة، بينما يعيشون داخل بيوتهم حياة متفرقة رغيدة، صنعتها عمليات الإغارة وما تعود به من غنائم وأسلاب، ولعل الصورة التي رسمها الكاتب لمنزل عبد الرؤوف العيار خير مثال على ذلك، إذ يبدو المنزل من الخارج منزلاً عاديا متواضعًا، بيد أنه في الداخل يرتفع إلى مستوى عظيم من الترف[14].
ومن أبرز الشخصيات العيارين: بهلول، وعبد الرؤوف، وسلام الشواف، وثمامة.. ثم حمدان قرمط نفسه…
ويمكن اعتبار العيارين، مرحلة تمرد محدودة ضد الدولة، أو هي المرحلة الأولى التي احتضنت التمرد الأوسع ضد السلطة الشرعية، فقد عرف “حمدان قرمط” الطريق إليها بعد اختطاف أخته “عالية” ويأسه من الوصول إليها، أو مساعدة ابن الحطيم الإقطاعي له في الوصول إليها.. وقد نجح “حمدان” بالفعل عن طريق العيارين في الوصول إلى “عالية”، كما كشف لنا وصوله إلى “عالية” عن كثير من الفساد والفجور الذي يحتوي عليه قصر ابن الحطيم..


إن شخصيات العيارين تكشف كثيرا من مظالم الإقطاعيين ومفاسدهم، وفي الوقت نفسه تعبر عن شوق الناس إلى العدل والحرية والسلام الاجتماعي.. كذلك، فإن ظهور هذه الشخصيات يوضح مدى تقصير السلطة المركزية والسلطة المحلية في تحقيق العدل والأمن بالنسبة لجموع الناس، كأفراد ومجتمع.. مما يعني أن الخلفاء والأمراء – وهو ما صورته الرواية – كانوا في واد آخر، بعيد عن عناء الأمة وهمومها، وإن ظهر بينهم أخيرا من يأخذ زمام المبادرة، ويعيد الأمور إلى نصابها.

(5)
هناك مجموعة من الشخصيات نستطيع أن نطلق عليها مجموعة “الأمل والمقاومة”، باعتبار أفرادها ممن احتفظوا – رغماً عن كل عناء – بفطرتهم الطبيعية النقية، وبحثوا عن الحق في أصول الدين الصحيح، ورفضوا ما حولهم من الزيف والباطل، كل حسب مقدرته وإمكاناته.
وعلى رأس هذه المجموعة شخصية عالم الدين “أبي البقاء البغدادي” الذي رفض الصمت إزاء ما يجري في الدولة من اضطراب وخلل، وقام بواجبه على الوجه الصحيح في نصح الخليفة بما يمليه عليه الشرع الحنيف لإنصاف المظلومين، وتوفير الحياة الكريمة للمحتاجين،، مما عرضه للسجن، ومع ذلك لم يتراجع أو يتزلزل إيمانه بضرورة التصحيح والتقويم، ومن خلال المقارنة بينه وبين علماء الدين الآخرين، الذين آثروا الصمت والتخلي عن دورهم، تبدو شخصيته قوية جسورة تواجه المحنة بشجاعة وثبات، ومع ما أصابه من عناء ظلم وتغييب في السجن، فإنه ينهض لمواجهة مسؤولياته والقيام بواجبه، من أجل الفقراء والمظلومين عند الخليفة، أو أمم الخطر الزاحف الذي يتمثل في ثورتي الزنج والقرامطة، ونستطيع أن نستشف بعض ملامح أبي البقاء من خلال الحوار التالي مع الخليفة المعتضد، وكان قد اقترب منه إلى حد ما:
ليأمر أمير المؤمنين بإنشاء ديوان الزكاة، وديوان الفضول، وديوان الفقراء والمساكين، وديوان الفلاحين، وديوان الصناعة والعمل، وأمير المؤمنين يعلم أني قد وضعت لكل هؤلاء كتاباً ليسترشد به القائمون عليه.
– أجل لقد قرأت منها كتاب الفضول؛ فشهدت فيه فضلك وعلمك، وأشهد أن أبي- رحمه الله- كان يعجب به.
– غفر الله لأبي أحمد كنت أنتظر منه التنفيذ لا الإعجاب.
– قد كان يرى صعوبة تنفيذه.
– بل كان يخشى ثورة الأغنياء، وكان الله أحق أن يخشاه.
– لا تنس يا أبا البقاء أن هؤلاء كانوا يجدون من العلماء من يفتيهم بأن ذلك ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله.
– أولئك قوم اتخذوا العلم حرفة وتجارة، وقد بينت في كتابي بطلان رأيهم.
– وكان مشغولاً بفتن الخارجين على الدولة.
– ما كان دعاة الفتنة لينجحوا لو أنه بسط العدل في رعيته، وقد خالفني حتى في ديوان الزكاة حيث لا مجال لاختلاف الرأي.
– ما قرأت كتابك في الزكاة، ولكني أذكر أنكما إنما اختلفتما بصدد إنشاء الديوان.
– نعم كان يريد أن يضم ديوان الزكاة إلى بيت المال العالم، فأبيت إلا أن يكون مستقلاً يصرف منه على مستحقيها وحدهم، لا على المصالح العامة كلها، إن الله لا يرضى أن يصرف حق الفقير والمسكين في كنس الدروب وكرى الترع، وإعاشة الشرطة حيث يفيد الأغنياء من ذلك أكثر مما يفيد الفقراء[15].

ومن خلال هذا الحوار تبدو شخصية “أبي البقاء البغدادي” في قوتها وجسارتها، وهي تجهر بكلمة الحق، ولا تتردد في النطق بما ينبغي أن يكون، منطلقاً من تصور الدين لحل المشكلات التي تواجه المسلمين، فهو في حضرة الخليفة لا يخافت ولا يتلعثهم بل إنه يتحدث عما يراه صواباً، ولا يتردد في الحديث عن والد الخليفة الراحل ويشير إلى سلبياته وأبزرها خوفه من الأغنياء، ويحمل على علماء السوء الذين اتخذوا العلم حرفة وتجارة وكانوا يزينون الباطل للخليفة الراحل، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك حين يراه عاملاً مهماً في نجاح دعاة الفتنة لأنه لم يبسط العدل بين الرعية….
وهكذا تبدو قوة شخصية أبي البقاء في الإصرار على الحق وما يراه صواباً، ويلاحظ أن الكاتب اكتفى بتقديم شخصية أبي البقاء من خلال سلوكها وكلامها، ولم يشر إليه بوصف أكثر من كونه “عالم دين” ولكنه يقدمه في صورة الناصح الواعي والسند القوي الذي يقف إلى جوار الخليفة حتى تنقشع الغمة، وتنتهي المحنة، فإنه بلا شك رمز للأمل، والمقاومة أيضاً.
وفي الاتجاه نفسه نجد شخصيات “عالية” و”مهجورة” و”الغيث”، فهذه الشخصيات تعرضت لظروف مؤلمة أو غير طبيعية، ولكنها تواجه هذه الظروف بالصبر والاحتمال والرفض، فعالية أخت حمدان، تعرضت للخطف على يد رجال “ابن الحطيم”، وتحولت في قصره إلى جارية يستمتمع بها ورجاله، وعندما يخلصه أخوها تستشعر شيئا من الغربة، فتخرج هائمة على وجهها حتى تعثر على مستقر لها لدى إحدى السيدات التي تشفق عليها، وتتزوج – كامرأة فقيرة- تحت اسم جديد من رجل فقير اسمه “عيسى بن ميمون” الخواص، وتربي معه ابنتها “مهجورة” التي حملتها سفاحا في قصر “ابن الحطيم”. وعندنا تعود إلى أخيها “حمدان” قائد دولة القرامطة في عاصمته “مهيما باذ”، ترفض المذهب القرمطي، وتعارض ما يجري باسمه من حولها، وتواجه شقيقها وأختها برأيها، بل تصر على أن تعيش مع ابنتها في مكان منعزل عن القوم، ويكون لآرائها تأثير ما في تهيئة الأذهان، وبخاصة عند النساء، لرفض المذهب وانهياره.
ونجد أيضاً الابنة “مهجور ة” بالرغم من كونها “بنت سفاح” ترفض الأوضاع من حولها، ولا تقبل الدعوات إلى حفلات القرامطة وليالي “المشهد الأعظم” بما فيها من فجور داعر.
أما الغيث ابن حمدان قرمط، فإنه يجد لدى ابنة عمته “مهجورة” فرصته الذهبية ليتخلص من طقوس المذهب الباطني الذي يحكم دولة أبيه، ويستجيب لرغبة عمته وابنتها بأن تكون علاقته مع مهجورة وفقا للشريعة الإسلامية..
إذاً، فإن هذه الشخصيات تمثل أنموذجاً للرفض الذي دلل على عدم صلاحية المذهب ومخالفته للفطرة الإنسانية، مما آذن بزواله وانهياره.]
(6)
يمكن القول إن شخصيات الرواية من خلال المجموعات التي ظهرت ملامحها في الصفحات الماضية، تصنع مفارقة كبيرة ومتشعبة، تظهر من خلالها دلالات عديدة تربط ما بين الماضي أو التاريخ الذي يعالجه الكاتب في روايته، والحاضر أو الواقع الذي يعيشه قراء هذه الرواية، ولعل هذه الدلالات تكمن في قضايا الصراع بين الإقطاعيين والمعدمين من الأجراء، والحركات السرية الهدامة، والعلاقات الجنسية من منظور الشريعة ومن خلال الدين.. فالصراع بين الإقطاعيين الظالمين والأجراء المعدمين،نتج من خلال المفارقة بين حياة الطبقة الأولى التي يمثلها ابن الحطيم وابن أبي الهيصم، وهي حياة الترف والفساد، وبين حياة المعدمين الذي ينتجون ليغتني غيرهم ويحرمهم من ثمار ما زرعوه وحصدوه، وهم الطبقة الثانية التي مثلها حمدان قرمط وسواد الفلاحين، فقد أدت المفارقة إلى صراع مستمر أزهقت فيه الأرواح وسالت فيه الدماء، وتبدل فيه الدين، وجرت بسبب ذلك حوادث جسام على مستوى الدولة تجاوزت إقامة دولة القرامطة، وإن كان الكاتب لم يشر إليها مثل الاعتداء على الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، ونزع الحجر الأسود ونقله إلى البحرين[16]. المهم أن هذا الصراع استعر بين الفريقين، ولم يسفر في النهاية عن شيء لأي منهما، اللهم إلا المزيد من الآلام والجراح والأرواح التي أزهقت وذهبت هدراً، والوحيد الذي استفاد من هذا الصراع اليهود باعتبارهم ممولي الحركة السرية، والرابحين في كل الأحوال، فقد كان الإمام المعصوم يهوديًا، وليس “علويّاً” ثم إن المذهب قد فشل ولم يحقق العدل الشامل كما زعم، وبعد هذا فإن قائد الدعوة القرمطية قد رجع عن المذهب علنا، ويصور لنا الكاتب حقيقة الإمام المعصوم من خلال حورا بين عبدان وبين الحسين القداحي الذي أسفر عن وجهه باعتباره الإمام، تقول الرواية:
– نعم فأين هو؟.
– أغمض عينيك!
– فأغمض عبدان عينيه، ثم قال له الحسين: “افتحهما”.
– ففتح عينيه، وقال: “أين هو”؟
– عجبا أتقول أين وهو أنت الساعة بين يديه؟
– إني لا أرى أحداً سواك.
– فإني الإمام!
– أنت!
– بعد وفاة أبي انتقلت الإمامة إلى.
– كان أبوك رحمه الله نائب الإمام لا الإمام.
– فمن كان الإمام؟
– رجل مستور من أهل البيت من ولد محمد بن إسماعيل.
– فأنا هو.
– كلا لست من ولد محمد بن إسماعيل ولا من أهل البيت، وإنما جدكم عبد الله ميمون القداح؟!
– ماذا تقول في جدي عبد الله بن ميمون القداح؟!
– ماذا أقول في مؤسس دعوتنا وخادم الإمام؟
– بل كان هو الإمام عينه، وقد توراثنا الإمامة عنه.
– لكنه ما ادعى هذا لنفسه.
– كان ذلك تقية منه، وما كشف عن حقيقته إلا لصفوة أصحابه، وقد ظننتك من الصفوة فكشفت لك أمري، فإذا أنت كالدهماء ما تزال مفتونا بالنسب العلوي! فسكت عبدان قليلاً وقد تغر وجهه وجعل يهلث، ثم قال: “إن كنت تريد أن تكون الإمام فأي شيء يميزك عن غيرك؟”.
– علمي ومعرفتي بالمذهب.
– أنا أعلم منك وأفقه..
– كان والدي أعلم منك وأفقه وقد ورثت الإمامة.
– نحن في مذهب العدل الشامل لا نورث المال فكيف نورث المواهب والصفات؟…[17]

وواضح من هذا الحوار أن اليهود القداحين استغلوا عاطفة الناس نحو العلويين، واستطاعوا أن يجمعوا حولهم تلك الأعداد الغفيرة تحت دعاوى “العدل الشامل” و”رجعة الإمام”… إلخ، ولكن في لحظة المصارحة يكشف الحسين القداحي عن نفسه، وأنه الإمام المعصوم (!) وأنه ليس علويّاً. بل يهودي يسعى لتحصيل المال من الأتباع تحت ستار الدعوة والمذهب، فضلا عن تمزيق الدولة وإخراج الناس عن دينهم، أما الفقراء الكادحون، فلم ينالوا شيئا بل خسروا دينهم وأخلاقهم[18].
ولعل موقف حمدان آخر الأمر حين اكتشف حقيقة المذهب خير تعبير عن هذه الخديعة اليهودية، فقد فكر في التسليم لسلطان الخليفة والرجوع إلى طاعته، ولكنه خشي من رجاله، وفاجأ الناس بإعلان براءته من دين الإمام الكاذب ومذهبه القائم على التضليل الإلحاد والإباحة، وتوبته إلى الله من كل ذلك ورجوعه إلى الدين الحنيف[19]، وهكذا يأتي إعلان فشل المشروع القرمطي على يد منفذه وقائده، بينما المشروع الإسلامي الصحيح من خلال صورته التي قدمها أبو البقاء البغدادي للخليفة كان يزدهر وسينتصر ويحقق الأمل للفقراء والكادحين والصناع والمظلومين، بلا عنف ولا د ماء، ولا ريب أن “باكثير” كان يشير أو يتنبأ بفشل مشروعات معاصرة مشابهة كما فشل المشروع القرمطي، بينما يرى المشروع الإسلامي هو البديل الذي لا مفر منه.
إن مجموعات الشخصيات في الرواية تظهر بالمقارنة.. كما أشرنا دور الحركات الهدامة في استغلال عناء الفقراء والكادحين وتسعى إلى تحقيق غايتها الشريرة تجاه الإسلام، فقد رأينا المجموعة الكادحة وعلى رأسها حمدان قرمط، تواجه المجموعة الظالمة وعلى رأسها “ابن الحطيم” وأمثاله، ومن هنا تنتعش الحركات الهدامة على تفاوت في مستوياتها.. فبينما نجد مجموعة “حمدان” تمثل الثورة المباشرة من خلال آمال مشروعة، نجد مجموعة “العيارين” تمثل الثورة غير المباشرة أو المحدودة، التي تعمل في الظلام وتظهر في النهار بمظهرها الاجتماعي العادي، ويلاحظ أن هذه المجموعة تبدو من الناحية المادية أو الاقتصادية أفضل حالا من مجموعة حمدان،وهم أقرب إلى التجار ومستوري الحال، ولكنهم في كل الأحوال يعانون من أضرار وقعت عليهم من جانب الإقطاعيين الفاسدين، كذلك نجد مجموعة الدعاة للمذهب وعلى رأسهم الكرماني وهم يعملون في صمت، ويبحثون في صبر عمن يستخدمونهم أو يجندونهم للدعوة، مستعينين في ذلك بالغواية والإغراء والمال، أما مجموعة “اليهود” فيبدو تأثيرها قوياً ومضاعفاً لأنها تتعامل مع جميع القوى، مستخدمة المال وسلاح الإقراض؛ لإشعال الثورة وتغذيتها، والربح من جانب الثائرين الذين يدفعون الجزية للإمام المعصوم، والربح من جانب الدولة بصمتها عنهم نتيجة إقراضهم لها.. وتستثمر المواقف المختلفة لتدعيم وجودها.. فقد استطاعت أن تزرع المزيد من الحركات الهدامة في جنبات الدولة: ثورة الزنج، القرامطة، الصفرية، إخوان الصفا… إلخ.
وتبدو قضية الجنس من خلال صراع الشخصيات قضية حيوية ومهمة تعزف عليها الحركات الثورية في الرواية، وفى الواقع المعاصر أيضاً، فهذه الحركات ومن خلال منظريها تطرق المسألة طرقا معكوسًا، بهدف كسب الأنصار وتجنيد الأتباع، فتبيح العلاقة بين الجنسين طالما كانت قائمة على رضاهما، والشيء الذي تستنكره هو الاغتصاب، أو عدم موافقة أحد الطرفين، ومن خلال التطبيق في الرواية نجد أن الفطرة السليمة لدى الشخصيات تأبى هذا النهج، وبخاصة عندما يقع حمدان على ابنته “فاختة” والغيث على عمته راجية، وفي المقابل نجد رفضاً باتاً لدى عاليه ومهجورة للإباحية التي يفرضها المذهب.. ثم نرى في أكثر من موضع في الرواية إحساسا طبيعياً وفطريا يرفض أن تكون الإباحية هي النهج السائد، وذلك بما نراه من غيره أو إحساس بعد الرضا أو شعور بالتذمر[20].
ويلاحظ أن الكاتب عبر عن العلاقة الجنسية على مدى صفحات الرواية بأسلوب راق، لم يهبط أبدا إلى مستوى الإثارة الرخيص الذي عالج به بعض الكتاب هذه القضية، ولعله كان متأثرا في ذلك بمنهج القرآن الكريم، كما نرى في سورة يوسف على سبيل المثال.
إن شخصيات الرواية في كل الأحوال تصنع عالماً يتصارع فيه الخير ممثلاً في الإسلام وشريعته، مع الشر ممثلاً في الإقطاعيين والثائرين والباطنيين.. ما جعل الصراع حيويًا، ومثيراً أيضاً، وعن طريق المفارقة بين الشخصيات تعرفنا على ملامح كل فريق من فرقاء الصراع.

 

 

يتبع

.

عن المحرر

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *