الرئيسية / روضة الأدب / جريدة عُمان -تُحاور الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود، عدد 3 فبراير 2023م
الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود

جريدة عُمان -تُحاور الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود، عدد 3 فبراير 2023م

جريدة عُمان التي تصدر في سلطنة عُمان تُحاور الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود، عدد 3 فبراير 2023م

 

لذة المعرفة تفوق أي لذة..

عشت داخل صومعة كي أنجز ما قدمت وما زال لدي الكثير

الأدب العُماني يتطور ويواكب الحياة الأدبية العربية –

لم أنفصل عن الواقع والحياة العامة في السيرة التي كتبتها وسجلت آرائي وتصوراتي فيها –

نصحني الشاروني ولكن رغبة العناد والتحدي جعلتني أصرّ على النقد الأدبي –

لست مع التصنيفات الأدبية للكتّاب إلا بقدر تمييز المهمة –

الأدب الذكوري والنسوي كلام للتسلية ووقود لمعارك طواحين الهواء، ولا أومن به. الأدب أدب –

الحوار مع أديب كبير قدّم للمكتبة العربية كثيرا من المؤلفات ويحمل في فكره قضايا كثيرة ويدافع عنها، لا يحتاج لمقدمات طويلة، بل إلى البحث والقراءة بين تفاصيل كتبه وأعماله وآرائه وتجهيز أسئلة تليق بمكانته، إنه المفكر والأديب المصري الدكتور حلمي قاعود الذي لم تفرغ جعبته بعضا مما لديه من إبداعات وكتب يحاول أن ينجزها قبل أن يمضي قطار العمر، كما يقول، أراؤه محط اهتمام وجدل دائم، يدافع عن قضاياه الفكرية التي تهم الأمتين الإسلامية والعربية بكل شراسة. أترككم مع تفاصيل الحوار الذي خص به صحيفة «عمان».

مشوار حافل مع الأدب بكل مكوناته وأصنافه «36 كتابا في الإسلام والسياسة والفكر ومثلها في الأدب والنقد وأكثر من 10 روايات وعدة مجموعات قصصية وكتب محققة وقصص للأطفال» كيف استطعت أن تجمع بين كل هذا التنوع وتجد الوقت لتكتب كل هذه الإبداعات، ولماذا، وهل حققت الهدف ..؟

الحمد لله على نعمه. لقد أعطيت عمري للكلمة، قارئا وكاتبا. ليست لي غايات دنيوية خارج الإطار الطبيعي، قضيت أيامي التي شارفت على السابعة والسبعين بين صفحات الكتب طالبا ومعلما وباحثا وكاتبا. لذة المعرفة تفوق أي لذة، وكما يقول الصوفية: «من ذاق عرف». لهذا عشت داخل صومعة إن صح التعبير، لا مكان هناك لإهدار الوقت أو المجاملات الاجتماعية إلا في أضيق نطاق. استغنيت عن العلاقات العامة التي تبدو ضرورة للتعريف بكتبي وعرض إنتاجي الأدبي والفكري والعلمي، وتحقيق ما يسمى الشهرة، فأنا بحمد الله زاهد، ولا أطمع في شيء من عرض الحياة الزائلة، ويوم كنت كاتب عمود يومي في «الأهرام»، كنت أتعامل مع الجريدة من بيتي. ربما كانت عزلتي في الريف عاملا مساعدا على توفير كثير من الوقت للقراءة، وبالتالي للكتابة، فلا كتابة بدون قراءة، يجب عندما تكتب شيئا أن تستوفي عناصره الدقيقة كي يصير متميزا، وقد تنوعت مجالات الكتابة أمامي بحكم الظروف والموضوعات التي تطلبت معالجتها.

في الأصل كنت أفضل كتابة الرواية والقصة، ولكن عملي بالتعليم العام ثم الجامعي فرض علي الاتجاه إلى البحث والدرس التخصصي، تصور أنني نشرت أول مجموعة قصصية وأنا مجند على الجبهة قبيل حرب رمضان، ثم نشرت أول رواية (الحب يأتي مصادفة) في سلسلة روايات الهلال عام 1976 بعد تسريحي من التجنيد، هناك مجموعة قصصية أخرى متفرقة نشرتها في مجلات مصرية وعربية على مدى عقد من الزمان، أواخر الستينيات ومعظم السبعينيات، تبعثرت وسط ركام الأوراق والدوريات، ولا وقت لدي كي أجمعها. شغلتني الأحداث العامة بعد الحرب، فاستنزفت كتاباتي المباشرة، وحملتُ في ذهني عشرات الروايات والقصص، وكنت أتحين الفرصة لأكتبها، ولكن الحياة الأكاديمية ضغطت، لصالح الدراسة الأدبية والنقدية والبلاغية، مع تقدم العمر، وإغلاق نوافذ التعبير المباشر منذ سنوات لأسباب شتى، اقترح على بعض أصدقائي القريبين أن أعود لكتابة الرواية والقصة، فتساءلت بيني وبين نفسي هل يمكن العودة بعد نصف قرن تقريبا؟ تهيبت الأمر في البداية، وكأني أنزل إلى النهر دون إجادة السباحة. وجدت تشجيعا كبيرا من بعضهم، وكانت الرواية الأولى فالثانية حتى زادت على عشر، وما زال في الذهن كثير .. فهل يمتد بي العمر لأحقق شيئا مما أريد؟ الله أعلم!

كتبت ثلاثة أجزاء من السيرة لذاتية «النيل بطعم الجوافة، والنيل لم يعد يجري، والنيل لا طعم له» ماهي أهمية السيرة الذاتية في الأدب بشكل عام، هل هي توثيق لتفاصيل حياة الكاتب أم تأريخ لحقب زمنية مهمة، وأنت ماذا أردت أن تقول من خلالها ..؟

السيرة الذاتية حياتي بصورة ما .. وهي حياة الآخرين. هناك سياسيون وشخصيات عامة يقدمون تجاربهم من خلال السيرة ليسجلوا أعمالهم، ويفيد منها الناس. بالطبع في مجال السياسة والحياة العامة تختلف الرؤى والتصورات، وقد تأتي بعض السير مخالفة للأحداث أو الواقع، ولكنها بشكل عام تضيء مناطق مجهولة، وتثير بعض الأفكار، أو تحفز على التحري عن وقائع معينة لخدمة التاريخ والمعرفة. فضلا عن توثيق حياة الكاتب في عناصرها الأساسية على الأقل.

ماذا أردت أن أقول من خلال سيرتي الذاتية؟ هذا يكتشفه القارئ. لكني عبرت عن حياتي في المكان الذي أقمت به، واسترجعت بعض طفولتي وعلاقتي بنهر النيل الذي عشت على ضفته، وكان طريق المواصلات شبه الوحيد في هذه الطفولة، وارتبطت بالمراكب والأشرعة والقوارب، وكان موسم الفيضان قبل بناء السد العالي عيدا للأرض الزراعية وللفلاحين والناس بعامة.

في السيرة التي كتبتها لم أنفصل عن الواقع والحياة العامة. سجلت آرائي وتصوراتي، وتحدثت عن بعض سلوكياتي ومشاعري، ولعلى عالجت طرفا آخرا من حياتي في روايتي «شجرة الجميز» التي صدرت قبل عامين.

السيرة مصدر ثراء في الأنواع الأدبية، وهي مفيدة في كل الأحوال.

لديك كتب كثيرة في الدراسات النقدية في الشعر والرواية وكثير من القضايا الأدبية إلى أي حد تحتاج الساحة الأدبية للدراسات النقدية، ولماذا كنت مصرا منذ بداياتك على ولوج هذا الأدب النقدي رغم كل ما يحيط به من انتقاد، وما رأيك بالنقد الذي يتم حاليا هل يسهم في نهضة الأدب ويضيؤه أو مجرد جلد للكاتب والكتاب …؟

في يوم ما أوائل السبعينيات قال لي الناقد الراحل يوسف الشاروني: إنك تكتب القصة الفنية بجودة وجمال، فلماذا تعنّي نفسك بالنقد الأدبي؟ انظر إليّ، لقد عانيت من النقد كثيرا. من تكتب عنه يريدك أن تمدحه وتكتب عن كل ما يصدره، وإلا يخاصمك ويقاطعك، ومن لم تكتب عنه يحمل لك ضغينة، ويتربص بك وينتهز أي فرصة لينال منك، ثم إن النقد الأدبي لا يجلب لصاحبه دخلا يعوض تعبه وجهده، ولكن يزيدك فوق الجهد والتعب آلاما نفسية وشخصية. أما القصة فقد تتحول إلى تمثيلية أو فيلم يمنحك بعض العائد، ولا يشكل متاعب أنت في غنى عنها.

سمعت ما قاله الشاروني وابتسمت، ولكن يبدو أن رغبة العناد والتحدي في مرحلة الشباب جعلتني أصر على النقد الأدبي، وأعيش معه تخصصا علميا وممارسة تطبيقية حتى اليوم، ولكن نصيحة الشاروني تأكدت، فما أكثر من غضبوا مني، وما أكثر من قاطعوني، وما أكثر من رأوني مدينا لهم بعدم الكتابة عنهم، مع أني لو قضيت عمري في ملاحقة ما تصدره المطابع ما استطعت.

وأيا كان الأمر فالنقد ضرورة أدبية وحضارية من أجل التقويم والتوجيه والنهوض بالأدب واللغة، ولا بد أن يتأسس على منهج وقواعد، فجلد الكاتب أو الكتاب، ليس نقدا ولا علاقة له بالأدب. دراسة النص مسألة علمية تقوم على الفرز والبحث والوصول إلى نتائج.

أصدرت كتابا عن الرواية المعاصرة في مصر وسوريا عام 2018، كيف وجدت واقع الرواية، وهل اختلفت عن السابق، ولمن الريادة للقديمة أم المعاصرة..؟

هذا الكتاب أعتز به كثيرا، شجعني على إصداره صديقي الراحل فاضل السباعي، كانت علاقتنا الوثيقة منذ الستينيات بابا للتعرف على الأدب العربي في سوريا شعرا ونثرا، والعلاقة مع عدد كبير من الأدباء السوريين المعاصرين امتد إلى أدباء المهاجر، قرأت كثيرا من الأدب السوري، وارتبطت بصداقة عميقة مع الأديب الراحل الدكتور عبدالسلام العجيلي، وهناك أصدقاء آخرون لم ألتق بهم من بينهم في الجيل القديم الشاعر عمر بهاء الأميري، ومن الجيل الذي يليه مصطفى النجار، ولا ريب أن الجيل السابق كان أكثر نضجا في الكتابة الروائية من الجيل المعاصر الذي اتسعت أمامه الرؤية، وضاقت عليه العبارة، فقد تنوعت الموضوعات حاليا، ولكن القدرات التعبيرية ليست على المستوى الفني المطلوب. كثير من الكتاب يفتقرون إلى امتلاك الأدوات الأساسية: الإملاء، النحو، الصرف، التراكيب … إلخ، فضلا عن افتقاد الرؤية المنحازة للإنسان. عشرات الروايات اليوم تغازل جهات بيدها المنح والمنع، والشهرة والتعتيم، وهي جهات في معظم الأحوال لا تتعاطف مع القيم العليا.

هل شغلتك الكتابة النقدية والدراسات والتأريخ عن الكتابة الروائية..؟

أجل! وكما قلت في إجابة سابقة فقد شغلتني الحياة الأكاديمية والقضايا العامة المباشرة عن الكتابة الروائية أو السردية، ولكني حين أنظر خلفي أرى أن هناك قضايا بحثية أو اجتماعية أو عامة كان لا بد أن أتناولها. أشعر بالرضا لأني استطعت أن أضم إلى أقلام أخرى تتناول القضايا التي لم يقترب منها أحد قبلي، اقتربوا من هوامشها دون الدخول في صلبها. لدي تراث كبير في هذا الأمر، وأسأل نفسي: كيف استطعت أن أقتحم هذه القضايا وبمثل هذه الجرأة وهذا الإصرار؟ هذا يمنحني شيئا من الرضا والحمد لله.

قدمت للمكتبة كتابا نقديا عن «الرواية التاريخية في أدبنا الحديث» من خلال عدة أجيال كتبوها، ماذا لمست من خلالها، وهل يمكن أن تكون الرواية تأريخا لحقب وأحداث، أم هي سرد حكايات من الماضي عبر وقائع معينة والعمل عليها بإسقاطات على الحاضر …؟

الرواية التاريخية فن أخذناه عن الغرب ورائده «والتر سكوت» صاحب رواية وايفرلي الشهيرة 1814. وقد نما هذا الفن ونضج مع ظهور الرومانتيكية، واستجاب لأهدافها وغاياتها في الحرية والفردية والقومية أو الوطنية وإحياء البطولة وتحرير الأوطان واستقلالها، وأساس الرواية التاريخية التاريخ بأحداثه ووقائعه ممتزجة بخيال الكاتب وقدراته الفنية في تحريك العواطف والمشاعر، وهناك كتاب أجانب برعوا في كتابتها منهم «تولستوي»، وكاتب القرم «جنكيز ضاغجي» و«الكسندر دوماس»، و«همنجواي» وغيرهم. وكان أبرز روادها في البلاد العربية جرجي زيدان وعلى الجارم وعبدالحميد جودة السحار ونجيب محفوظ ومحمد فريد أبو حديد وعلى أحمد باكثير ونجيب الكيلاني وإبراهيم الإبياري وغيرهم.

ولا ريب أن الرواية التاريخية تمثل ضرورة فنية وأدبية، وخاصة في فترات الهزائم والقمع والبؤس الحضاري، فضلا عن كونها وسيلة فعّالة للتعريف بالماضي وقفزاته وعثراته لتفيد منه الأجيال الجديدة، وتعد في معظم الأحيان تعبيرا عن الحاضر والمستقبل من خلال المشابهة والرمزية.

هناك من يصنفك ككاتب إسلامي ومؤرخ ومحقق لكثير من الكتب الإسلامية، هل أنت مع هذه التصنيفات للأدباء، كما يتم تصنيف حسنين هيكل ككاتب سياسي مثلا ..؟

يفترض في الكتاب الذين يؤمنون بالإسلام ويتكلمون العربية أن يكونوا كتابا إسلاميين، حتى من لا يؤمنون بالإسلام ويعيشون بيننا يفترض أنهم يعبّرون عن حضارة إسلامية وثقافة عربية من خلال أفكارهم وتصوراتهم وأدواتهم. كان الوضع كذلك حتى القرن العشرين تقريبا، حيث هيمنت الثقافة الغربية وفلسفاتها المتعددة، فانقسمت النخب إلى اتباع لهذه الفلسفات المختلفة، وتوحدت ضد الثقافة الإسلامية، أو على الأقل أسقطتها من حساباتها، مع أنها صلب الثقافة الوطنية والمكون الفكري للشعب وصانعة وجدانه ومشاعره، وبصفة عامة كانت النظريات المادية وخاصة الماركسية هي القائدة لحركة الفكر في البلاد العربية، وصار رأس المال هو الكتاب المقدس بديلا عن القرآن الكريم، واستطاعت الأحزاب الشيوعية وأشباهها من خلال تحالفاتها المشتبه بها مع كثير من الأنظمة هي من يقود الثقافة والفكر والأدب، فضلا عن القضايا الكبرى، ويكفي أنهم كانوا من وراء الاتفاقيات مع العدو (جماعة كوبنهاجن، وأوسلو مثالا)، وتعلم أن هناك من يلح على إسقاط الدين من الحياة والمجتمع، ويقصدون بالدين هنا الإسلام وحده، لأنهم لا يستطيعون الاقتراب من العقائد الأخرى!

لست مع التصنيفات إلا بقدر تمييز المهمة: كاتب سياسي، كاتب اقتصادي، كاتب تاريخ، باحث جغرافي …إلخ، ولكني لست مع إقصاء الإسلام أو استئصاله من التصور والرؤية، لأن في ذلك خسارة كبيرة للأمة وللأوطان.

وهل يمكننا أن نقول إن خط الدكتور القاعود يماثل ما قدمه هيكل في الأدب مع اختلاف المضامين، أم لكل منكما طريقته في التعاطي مع الأحداث والكتابة والسرد …؟

لا أظن أن هناك تماثلا أو تطابقا. الرجل كان يعبر عن سياسة حاكم مستبد مهزوم في معاركة الخارجية جميعا، منتصر على شعبه في معارك القمع والقهر، وشخصي الضعيف يعبّر عن مفاهيم وقيم إنسانية تبغي الحرية والعدالة والكرامة والمساواة والتفاهم والتحاور. هيكل يملك أسلوبا جيدا ومحفوظاته من الشعر العربي كثيرة، ولديه ذكاء واضح جعله يعيش في عصور متلاحقة من الملكية حتى وفاته في ظل النظام الحالي. لم يكن له موقف مضاد إلا مع السادات بعد أن خلعه من عرش الصحافة، وحرمه من لذة كاتب القصر، وأعتقد أن نموذج هيكل لا يناسب الكاتب المستقل الذي يحيا بعيدا عن الحكومات، ويتمنى تقدم مجتمعه، من خلال قواعد القانون العادل.

تقول في أحد حواراتك «أطمح إلى تذليل العقبات والصعوبات وتقديم الأدب الإسلامي بصورة فعّالة» هل حققت ذلك، وهل هناك أدب إسلامي فعلا، وهل يلاقي هذا الأدب الرواج كما غيره من الآداب، أم هناك معوقات، وما هو موقعه في الأدب المعاصر ..؟

لعلي أشرت من قبل إلى أن المجتمع الإسلامي في الأصل ينتج أدبا إسلاميا باستثناء بعض التوجهات الضيقة التي اندثرت، وظل ذلك حتى القرن العشرين. إن مشكلة كثيرين بعد أن هيمنت الثقافة الغربية في القرن العشرين تمثلت في تغبش الرؤية الإسلامية أو اختفاء التصور الإسلامي. كثير من الماديين يتلاشى المفهوم الإسلامي الصحيح في رؤيتهم. قد يأخذون مقولة من هنا أو هناك يطلقها درويش جوال أو شخص محدود الثقافة والفهم، ويعدونها صورة الإسلام الحق، وما هي بذلك. الإسلام رحابة إنسانية تحتضن الإنسان في كل مكان وزمان، وقد وضعت كتابا ضخما في مفهوم الأدب الإسلامي وتطبيقاته ونشر قبل عقدين من الزمان تقريبا، لدينا أدب إسلامي في الشعر والنثر، بل إن غير المؤيدين لفكرة الأدب الإسلامي لا يستطيعون التخلص منها بحكم التربية والنشأة والتعليم والحياة في مجتمع مسلم. الأديب المسلم لا يروج للإلحاد، ولا الزندقة، ولا الشرك ولا المذهبية المتطرفة، وأيضا لا يحول أدبة إلى ساحة لاستعراض البورنو، أو الرضا بالظلم والاستبداد والقيم السلبية .. الأديب المسلم يبحث عن الحق والخير والجمال، ويبث الأمل انطلاقا من أساس منطقي مقنع.

ككاتب مهتم بالثقافة الإسلامية وكتبت الكثير عنها، ومدرك للواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه الأمة الإسلامية وكتبت عنه أيضا، ما الذي يحيط بها من مخاطر داخلية وخارجية، ومما تخشى على هذه الأمة …؟

على مدى أربعة عشر قرنا تعرضت الأمة لأحداث جسام، وكان هناك استهداف لثقافتها وقيمها، وتراثها وآثارها، ولكنها تجاوزتها، ومهما كانت قسوة الاجتياح الخارجي، كما رأينا مثلا مع التتار والصليبيين والاحتلال الأجنبي في القرنين الماضيين، فإن المخاطر الداخلية أشد وأقسى. حين يعزّ التفاهم والتحاور والتشاور، وتسيطر نزعة التفرق والتشرذم، وتصعد نوازع الترف والجشع والطمع والاستبداد، ويستحل الأخ دم أخيه، وتتخلى الأمة عن هويتها لحساب هويات أجنبية، وتسود فلسفة الكسل والخمول والاستسلام للأمر الواقع، فهذه المخاطر تقود إلى الهاوية – ولنا في الأندلس وفلسطين وتركيا العثمانية عبرة وعظة!

خضت معارك أدبية ونقدية وإسلامية كثيرة، بماذا خرجت منها، وهل آن للمحارب أن يستريح بعد كل تلك المعارك، ومن الرابح فيها، وهل اختلفت اللهجة بينما كنت شابا وأنت اليوم ..؟

طبيعي أن تتطور الأفكار واللغة بحكم تحرك العمر، ما كنت أكتبه قبل ستين عاما أو أكثر، كانت له نكهة خاصة وحرارة معينة تنسب إلى الشباب وطبيعته المتفجرة بالطاقة والأمل والحلم. التجارب بعد هذا العمر الطويل تنضج وتكتسب سمتا أكثر موضوعية وعقلانية، ولكن ما كتبته في الماضي كان تعبيرا مخلصا في مجمله عن أحلام مشروعة وأماني إنسانية. في آخر العمر تغيرت الدنيا، غُلّقت الأبواب والنوافذ. كنّا في مرحلة الشباب نهاجر إلى لبنان بكتاباتنا في القضايا العامة، وإلى دول أخرى بالكتابات الأدبية. اليوم تغيرت الدنيا لبنان لم يعد لبنان الستينيات والسبعينيات، والدول العربية صار معظمها قالبا واحدا، والتيار المهيمن أمسى أكثر هيمنة وسيطرة. ومن الصعب أن يتحلى بالتسامح مع المخالفين .. هناك استراحة إجبارية بالتأكيد يفرضها الواقع الأدبي والحياة العامة، ثم إن متاعب الشيخوخة تضيف ما يمكن تسميته بضعف النشاط، ولكن هل يستطيع المخ أن يحصل على استراحة؟ لا أظن، فما زالت هناك أفكار وقضايا وأحلام بكتابة موضوع أو قضية أو فكرة… .

هناك من يصنف الأدب ما بين ذكوري ونسائي، هل أنت مع هذا التصنيف أم ضده، وهل الأدب النسائي يوازي ما نقرأه من أدب ذكوري ..؟

الذكورية والنسوية كلام للتسلية ووقود لمعارك طواحين الهواء، ولا أومن به. الأدب أدب، سواء كان مصدره رجلا أو امرأة، أقصد الأدب الجيد بالطبع، أما الأدب السطحي أو الزائف فلا محل له.

هناك كتابات للمرأة تفوق ما يكتبه بعض الرجال، ويمكن أن أعد العشرات من عهد ملك حفني ناصف وعائشة التيمورية إلى بنت الشاطئ ونعمات أحمد فؤاد، وسهير القلماوي وصوفي عبدالله، ونازك الملائكة وعاتكة الخزرجي، ووداد سكاكيني وألفة الأدلبي، وفاطمة محجوب، وروحية القليني وأخريات لا حصر لهن في شتى أرجاء العالم العربي.. .

بالتأكيد واكبت الأدب العُماني، ماذا لفت انتباهك فيه، وكيف ترى المشهد الثقافي هناك، ولمن قرأت من الأدباء العمانيين ..؟

الأدب العماني يتطور، ويواكب الحياة الأدبية العربية، ومع تأسيس الصحافة اليومية والاهتمام بالتعليم والثقافة العربية في سلطنة عُمان رأينا أدباء يشاركون في الأنشطة الثقافية العربية في القاهرة والمغرب وتونس والخليج، وقد اهتم صديقنا الراحل يوسف الشاروني بأدباء عُمان، وله بعض المؤلفات عن التراث العربي والأدباء المعاصرين في عمان، وهناك جهود زميلنا الدكتور أحمد درويش الذي ترافق اهتمامه بما يكتبه أدباء عُمان مع مشاركته في تأسيس جامعتها وكلياتها، وأذكر أنه دعا منذ عقد من الزمان أو أكثر مجموعة من شباب الأدباء العمانيين للمشاركة في مؤتمر للسرد العربي أقامته كلية الآداب في الإسماعيلية أو العريش لا أذكر تماما، ولكننا سعدنا بهم وبمواهبهم، وهناك بالطبع الكاتبة الروائية العمانية جوخة الحارثي التي فازت قبل سنوات بجائزة البوكر .. وعلمت أن التعليم في عُمان مستواه من الجودة بمكان فإني أتوقع تطورا أدبيا كبيرا للكلمة العربية المضيئة هناك، وقد أثمر ونضج.

ماذا تبقى لنا في جعبتك لتقدمه لنا ..؟

الله وحده أعلم. إذا كان هناك عقل يعمل، وجسم يتحرك، فلا بد من الإنتاج. تمنيت أن أقدم تفسيرا معاصرا موجزا ميسرا للقرآن الكريم، بيد أن متاعب السن فيما يبدو تحول بيني وبين تحقيق هذه الأمنية الغالية، ومع ذلك فلدي أمل في الله.

بعد كل هذه السنوات في الكتابة، هل أنت نادم على شيء كتبته، أو على عملك ككاتب وناقد، وهل حققت طموحاتك من خلال الأدب …؟

الندم على الأخطاء واجب. أشعر أني لم أخطئ في مسيرتي الأدبية والفكرية. كتبت ما ظننت أنه صواب، الخطأ هو في الثقة ببعض الناس الذين اعتقدت أنهم مخلصون، بينما كشفت الأحداث عن أشياء أخرى. تمنيت أن أفرغ للكتابة الفنية (الرواية، القصة، المسرحية …)، فاستغرقتني الكتابة المباشرة. الطموح أن تقول كلمة ذات تأثير، وهو ليس طموحا شخصيا بقدر ما هو رغبة في وضع لبنة على طريق الوعي واليقظة للأمة ومجتمعاتها. أشعر أنني فعلت، وأني أثرت في السياق العام من خلال طرح الموضوعات أو المصطلحات حتى لو لم يعترف الآخرون من الذين تأثروا بما كتبت وطرحوه بأسمائهم للناس. وهذا في مضمونه اعتراف ضمني بالنجاح في خدمة الأمة. الذين وضعوا المتاريس في طريقي، ومنعوني النشر الرسمي والمؤتمرات والجوائز والتقدير لم يستطيعوا إيقافي، لأني أكتب مستغنيا عنهم. ومن يستغني بالخالق لا يحتاج إلى المخلوق.

عن habib

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *