الرئيسية / الوثائق السياسية للحركات الاسلامية / الوحي عماد الفكر الإسلامي فضيلة الشيخ محمد الحمداوي رحمه الله تعالى
الشيخ محمد الحمداوي

الوحي عماد الفكر الإسلامي فضيلة الشيخ محمد الحمداوي رحمه الله تعالى

الوحي عماد الفكر الإسلامي

لفضيلة الشيخ محمد الحمداوي

رحمه الله تعالى 1

 بالإنسان، وفي الإنسان، اتضحت حقيقة الفكر، وبالفكر وفي الفكر، تميز الإنسان من الحيوان. وبالوحي، وفي الوحي هدى الله الإنسان المسلم إلى أن يكون “مفكرا إسلاميا” مهديا، وهاديا، باحثا عن الحقيقة، في ذاته وفي الكون، وواصلا بذلك، وصول المعرفة واليقين، إلى بارئه وبارئ الكون. وفي ذلك سعادته في نشأته الأولى، حيث خلق له بارئه ما في الأرض جميعا، وجعل له الأرض ذلولا يمشي في مناكبها ويأكل من رزقه، ويحرص على ما ينفعه، ولا ينسى نصيبه من الدنيا. وفي ذلك أيضا سعادته في نشأته الأخرى، حيث يذهب إلى ربه راضيا مرضيا، فائزا بالمغفرة والرضوان.

وفي مجال هذا البحث، وفي معارك الصراع بين منطق الهداية والوحي، ومنطق الهوى والرأي، تميزت حقيقة (الفكر الإسلامي) عن غيره من الأفكار، وعلى مر الدهور وتعاقب الأعصار.

والباحثون اليوم في المذاهب والأفكار يتبعون طريقة التحليل، حيث يرجعون الفروع إلى الجذور، والفصول إلى الأصول، والبحث في حقيقة (الفكر الإسلامي). أصوله وفروعه، يقتضينا أن نجزم تمام الجزم بأن الدعامة الأولى التي يقوم عليها هذا الفكر في أصوله وفروعه، هي أنه “من الوحي نبع وإلى الوحي يرجع”، وكل تصور للفكر الإسلامي، سواء فيما غبر منه، وما حضر، على غير هذا الأساس، فإنما هو انحراف به عن أصله، وخروج به عن حقيقته، وأن كل ما قد شبه للناس من مذاهب ونظريات، وتعاليم وثقافات، على أنه من الفكر الإسلامي فإنما هو (الدخيل) وقد تصدى (مفكرو الإسلام) في مختلف عصورهم لتمييز الأصيل من الدخيل، وأظهروا بواضح الحجة، وصحيح الدليل، على أن (الدخيل) ليس في شيء من (الأصيل).

وسأحاول في هذا البحث أن أجلي الصورة الحقيقية لتأصيل الوحي في الفكر الإسلامي منذ نشأته عبر عهود النبوات وتعاقب الرسالات، حتى ختامها بالرسالة المحمدية، التي لا تزال طائفة من أمة رسولها، المتمسكين بمبادئها، المفكرين بأصولها ، ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

في القرآن سورة اسمها (سورة الإنسان) افتتحها رب الإنسان بقوله جل جلاله:

 “هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1) إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً(2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)”.

وفي سورة البلد، جاء قول الله:

” لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَد(4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد(7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)”.

      وفي سورة الشمس جاء قول الله:

” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10).

 الإنسان إذن، بشهادة رب الإنسان (أمشاجٌ)، فيه عنصر المادة المعرض للكون والفساد، والتحلل والتغير، وفيه غريزة الحيوان وخصائصه، وفيه إدراك العقل وسلطانه، وفيه كذلك الروح الملكوتية ذات الأشواق إلى الخير والجمال والكمال والتدين، فيه الخير والشر، ومن ثم فقد جمع الإنسان في حقيقته كل متناقضات الأشياء فأوعى، ومن ثم فقد كان حريا بأن ينشد فيه شاعر اليونان الأول سفوكليس أنشودته القائلة:(ألا ما أكثر العجائب، ولكنك لا تجد فيها عجيبة أعجب من الإنسان). ومن ثم فقد تناقضت فيه أقوال من حاولوا شرحه بالتعريف والتحديد، حتى قال فيه (باسكال): “إنه ذلك المخلوق الغريب الذي لا سبيل إلى فهمه”. وحتى جاء من بعد باسكال، ألكسيس كاريل وعنون كتابه في الإنسان بقوله: (الإنسان ذلك المجهول).

ذلك لأنه الإنسان ذو الطبيعة المزدوجة، والكيان المتناقض، الذي جمع بين القوة والضعف، والفكر والغريزة، والفعل والانفعال، والتأثير والتأثر، والبطولة والخوف، والشهوة الجامحة، والعفة الكابحة، والفجور والتقوى، والكفر والإيمان، وصدق الله:

 ” لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين:5)

وشاء ربك، ولحكمة بالغة جلت عن الوصف، وسر خفي عز عن الإدراك، شاء ربك أن يكون الإنسان في أول خلقه (فتنة)، فتنة لملائكة الله حين أقدموا على تجريح خلق الله دون أن يعلموا السر في خلقه، وتقدموا بالسؤال إلى ربهم قائلين: ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ” (البقرة:30).

وفتنة للشيطان نفسه حين كان سببا للشيطان في الخروج من ربقة الطاعة، حيث حكم الرأي. وخالف الأمر، ورفض الأمر بالسجود قائلا: ” أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” (لأعراف:12)

وفتنة لنفسه، إذ عهد له ربه فلم يجد له عزما، “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً” (طـه:115) ، “فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى” (طـه:121) .

ولو شاء ربك لجعل في الأرض ملائكة يخلفون، وهم فعلا قد طلبوا ذلك. باستفهام الاستغراب، وصراحة القول، وإظهار الصلاحية حين قالوا: ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ” (البقرة:30). ولكن شاء ربك أن يخلف في الأرض الإنسان، على ما في الإنسان من طبيعة الإفساد وغريزة القتل، وحب الأثرة، وتلك مقتضيات الحكمة في سر الإعمار: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (البقرة:32).

ولئن أثبتت قصة خلافة الإنسان في الأرض، أن الإنسان قد أوتي من نور العلم والفكر ما جعله في حجة الله على ملائكته أحق منهم بالخلافة في الأرض، فإن قصة الأكل من الشجرة، ونسيان الخطاب، ومخالفة النهي، قد أثبتت من جانب آخر أن الإنسان قد ركب في طبيعته من ضعف الإرادة، وغلبة الشهوة، ما لا يستطيع معه أن يدرأ الشبهات، أو يغلب الشهوات، أو يستكشف عواقب الأمور، فيميز دائما بين النافع والضار، والطيب والخبيث في التروك والأفعال، وذلك ما عناه الله حين قال:

“إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” (الأحزاب:72)

         وهنا اتضح أن الإنسان (لا يقف وحده). بل بدت حاجته إلى الإسناد، إسناد الله له بوحي النبوات، وإرسال الرسالات، فكان أول العهد، “وعهدنا إلى آدم”، وبدأ خطاب الله المتعلق بفعل المكلفين ينزل من السماء، ومن هنا كانت نقطة البدء في نشأة “التفكير الإسلامي” على وجه الأرض. فحين خاطب الله الإنسان الأول قائلا: ” وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ” (البقرة:36) ، كان ذلك أول نزول أمر قدري في تاريخ التقدير والخلق بالنسبة إلى الإنسان، أما حين خاطب الله هذا الإنسان قائلا: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)” البقرة. فقد كان ذلك أول تخطيط إلهي وضع للتفكير الإسلامي الأصيل حتى لا يضل العقل، ويغلب الهوى، وتعمى القلوب التي في الصدور، فبهذا العهد الإلهي الأول لأول إنسان ظهر على وجه الأرض وضع بنو الإنسان في مفترق طريقين لاتجاه التفكير الإنساني.

  1. الاتجاه الذي يبتدئ فيه التفكير نقطة انطلاقه من (الوحي)  الإلهي، من النص وفهم النص واتباع النص والاستنباط من النص.

  2. الاتجاه الذي يبتدئ فيه التفكير نقطة انطلاقه من الرأي المجرد، والهوى المضل، ووسوسة الشيطان.

فحين فكر أبو الإنسان الأول في الإقدام على الأكل من الشجرة كان قد بنى تفكيره على استقلال الرأي ، ووسوسة الشيطان فعصى آدم ربه فغوى، وبذلك وقعت أول (شبهة) للعقل البشري في تاريخ الإنسان أما حين أعاد أبو الإنسان الأول النظر فيما أقدم عليه، ففكر وقدر، وأدرك شر المخالفة، وخطل (الرأي)، فاعترف بالخطيئة، وشعر بالندم، وأقر بالعجز، وتلقى (الكلمات) من ربه تائبا، فتاب عليه ربه وهداه، فقد بنى حينئذ تفكيره على أساس من الرجوع إلى الوحي الإلهي، وبهذه (الرجعة) يكون أبو الإنسان الأول قد وضع أول حجر أساسي في تشييد معهد للتفكير الإسلامي الصحيح، الذي رفعت قواعده على وحي من الله، ونطق من السماء.

وعلى أساس هذا العهد الذي عهده رب العالمين للإنسان الأول تتابعت رسل الله تترى عبر عهود تاريخ الإنسان المتعاقب على وجه هذه الأرض التي اقتضت حكمة ربنا أن يكون خليفته فيها، فلم يخل زمان من رسول، ولا أمة من نذير، حتى ختام هذه الرسالات بالرسالة المحمدية التي بعث بها محمد بن عبد الله إلى الإنسانية جمعاء. ولم يوح الله لمحمد بدين غير الدين الذي أوحى به إلى الأنبياء من قبله، وبذلك جاء القرآن يخاطب محمدا قائلا: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ”(الشورى:13) . “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً” (النساء:163) . ولم يكن هذا الدين الذي بعث الله به أنبياءه، وأوصاهم بأن لا يتفرقوا فيه غير دين “الإسلام”، وإن كانت سنة الله في تطور الأمم، وتغير الأحوال، قد اقتضت أن تكون مناهج الرسل وأساليب الدعوات، وشرائع الأحكام، مختلفة باختلاف الظروف والبيئات، وذلك قول الله تعالى: ” وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” (المائدة:48) . وقد جاءت كلمة (الإسلام) في القرآن في أكثر من آية من آيات الأخبار عن الأنبياء وأتباع الأنبياء من قبل محمد e.

جاء ذلك في الخبر عن نوح حين قال نوح لقومه: ” فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (يونس:72) .

وجاء ذلك في الخبر عن إبراهيم: “وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” َ (البقرة:131:130) . ” مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (آل عمران:67) . ” مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ “(الحج: من الآية78) .

وجاء ذلك في الخبر عن يوسف، حين دعا يوسف ربه قائلا: ” رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (يوسف:101) .

وجاء ذلك في الخبر عن موسى حين نادى موسى من آمن به من قومه قائلا: ” وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ” (يونس:84) .

وجاء ذلك في الخبر عن بلقيس ملكة سبأ حين أرسل إليها سليمان بكتابه النبوي قائلا: ” إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” (النمل:30) “أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” (النمل:31) . وحين أجابت بلقيس دعوة سليمان معلنة إسلامها قائلة: ”  قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (النمل: من الآية44) .

وجاء ذلك في الخبر عن “إسلام” جميع أنبياء بني إسرائيل حين قال الله في شأنهم: ” إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” (المائدة:44).

وجاء ذلك في الخبر عن القلة المؤمنة من حواريي عيسى حين أجابوا دعوة عيسى معلنين إسلامهم قائلين: ” نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”(آل عمران: من الآية52) .

ثبت إذن بنص القرآن، أن الإسلام دين الإنسان العام، وثبت أيضا بنص القرآن أن أنبياء الله الذين آتاهم الله الهدى من عنده من عهد آدم إلى عهد محمد e كانوا “مسلمين”، وفي إطار (الوحي) كانوا يفكرون، وبناء على (فكر الوحي) كانوا يعملون. وثبت كذلك بنص القرآن أن محمدا بن عبد الله خاتم النبيين، ورسول الله إلى الناس أجمعين، لم يكن إلا رسولا قد خلت من قبله الرسل، ونبيا (مسلما) داعيا إلى دين “الإسلام العام” كما دعا إليه من قبله (الرسل المسلمون).

فعلى محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن نزل: ” قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ” (الأحقاف:9) .

وعلى محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن نزل: ” قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) (الأنعام: من الآية14) .

وعلى محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن نزل: ” وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا )(آل عمران: من الآية20) .

وعلى محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن نزل” إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ” (آل عمران: من الآية19).

 وعلى محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن نزل: ” وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85) . وكان آخر بلاغ نزل على أهل الأرض من عند الله تلك الآية التي أعلنها محمد صلى الله عليه وسلم في عرفات مبلغا عن ربه الذي نادى أهل الأرض أجمعين قائلا: ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً “(المائدة: من الآية3) .

ومن ثم لم تكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا تلك اللبنة التي كانت لا تزال تنقص ذلك الصرح الخالد الذي شيده الأنبياء من قبل محمد، فمحمد –صلى الله عليه وسلم- هو القائل: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيئين”.

ومن ثم أيضا لم يكن كتاب الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم سوى ذلك الفصل الجامع من كتاب “الإسلام العام”.

وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية “مفكرا إسلاميا” واعيا بهذه الحقيقة تمام الوعي حين قال: “كل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الإسلام”.

إذن، (الفكر الإسلامي) الذي قلنا في خاصته: “إنه من الوحي نبع، وإلى الوحي يرجع” تسلسل على لسان كل نبي من أنبياء الله السابقين، حتى ختم في صيغته النهائية التامة الشاملة العامة، على لسان خاتم النبيئين، الذي بعث إلى الناس كافة، على حين كان الرسول يبعث إلى قومه خاصة، وخاطب أهل الأرض أجمعين قائلا: “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (لأعراف:158) .

وإن كانت هناك ظاهرة لزمت هذا الفكر “الفكر الإسلامي” منذ نشأته من عهد آدم ، حتى ختامه في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، فإنما هي ظاهرة الثبوت والاستمرار، واللزوم والالتزام، التزام النص، وتحكيم الوحي، في مواجهة المجتمعات، ودعوات الأمم، ومصارعة الأهواء، ومقارعة الآراء، فالنبي نوح عليه السلام، وهو أول رسول بعث إلى البشر برسالة، ودعا قومه إلى توحيد الله وعبادته، هذا الرسول المسلم الذي عندما طعن الملأ المترفون من قومه في رسالته، ورموه بالجهل والضلال، قائلين له، فيما حكاه القرآن: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لأعراف:60) . لم يرد عليهم بأنه برئ مما رموه به لأنه متفوق عليهم في العقل والفكر والرأي، أو أنه ذو علم أُوتِـيَهُ من عنده، وإنما رد عليهم قائلا: “قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأعراف:61) . أي إنني لم أؤسس (تفكيري) في دعوتكم إلى عبادة الله على استقلال فردي في الرأي، وابتداع شخصي في الدين حتى أضل، ولكني رسول أوحي إلي من رب العالمين، وحين نادى نوح ربه طالبا نجاة ابنه من الغرق في قصة الطوفان قائلا: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود:45) . وأجابه ربه: ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود:46) ، تبرأ نوح من أن يكون له بعد نزول الوحي رأي خاص، وفهم  فردي حتى فيما يتعلق بفلذة كبده، مناديا ربه تائبا آيبا: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود:47) . إنه التزام في مجال التفكير للخضوع للوحي، وخطاب التنزيل ، في تقدير الحقائق، وإبعاد الأوهام، وصرف الظنون، وذلك هو (التفكير الإسلامي الأصيل).

كذلك عندما جحد قوم هود رسالة هود قائلين” قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (الأعراف:66) ، أجابهم هود قائلا: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:67) ، أي إنني لم أعتمد في دعوتكم على رأي خاص، وفكر مجرد حتى أسفه، وإنما هو (الوحي) ، وإنما هو التلقي من رب العالمين: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (هود:57) .

كذلك عندما جاء صالح من  بعد هود، مقتفيا الأثر، وسالكا نفس الطريق، مناديا قومه: ” إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي ” الشعراء 142″.

وعندما أرسل موسى إلى فرعون وملإه، لم يخاطب موسى فرعون وملأه على أنه زعيم من زعماء بني إسرائيل، ذو فلسفة ومذهب وفكر خاص، وإنما نادى موسى فرعون قائلا: (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ)(الأعراف: 104 – 105).

كذلك عندما ادعى من ادعى من بني إسرائيل أن عيسى أمرهم بأن يتخذوه هو وأمه إلهين من دون الله، تبرأ عيسى من أن يتقول على الله بما لم يوح إليه به من عند الله وقال: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ  مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة: 116-117) . 

ولما سأل قوم محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير القرآن الذي أنزل عليه، أجابهم محمد صلى الله عليه وسلم قائلا: ( مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس:15) ، (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:203) ، (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الزخرف:43) . ولقد استمسك محمد في دعوته بالذي أوحي إليه، فبالوحي كان يفكر، وبالوحي كان يحكم، وبالوحي كان يفتي، وبالوحي كان يسالم، وبالوحي كان يحارب، وبذلك كان محمد آخر (مفكر إسلامي) نزل عليه الوحي، كما كان آدم أول (مفكر إسلامي) نزل عليه الوحي.

ثم صار الذين اتبعوا محمداً وآمنوا به وعززوه ونصروه على النهج، فالتزموا (الوحي) وحكموا الخطاب، فكان هديهم في السلوك وفي الحكم، وفكرهم في الحياة وشؤون الحياة (كتاب الوحي) ، وسنة صاحب الوحي، وإن القصة التالية – على سبيل المثال – لتدلنا على مقدار التزام أصحاب محمد للنص الذي ورد به الوحي على لسان محمد، وأن أحدهم مهما علت منزلته في العلم، وسمت مرتبته في الحكم، إذا قدر له أن ارتأى رأيا، ورأى أنه عين الصواب، ثم أظهر له أحد أفراد الأمة بالحجة والبرهان والعلم بالكتاب، أن ما ارتآه لم يكن عين الصواب كما ظن؛ لأن الوحي نزل بما يخالفه، ودل على ما يناقضه، عدل عن رأيه الذي ظنه من قبل يقيناً، وأعلن بصراحة، وهو رئيس الأمة وحاكمها الأعلى ، رجوعه إلى دليل الوحي الذي نبهته إليه امرأة من عامة الناس كان لها بكتاب الوحي علم، وهذه القصة كما يرويها أصحاب العلم بالحديث هي: “أن الخليفة عمر بن الخطاب صعد يوما منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ثم قال: أيها الناس، ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم، فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله، أو كرامة، لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا في مهور النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ قالت: أما سمعت الله يقول: “وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً” (النساء:20) . فقال: اللهم غفرانك كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب” (ابن كثير عن الحافظ ابن يعلى).

ثم جاء من بعد أصحاب محمد التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين من رجال (الفكر الإسلامي الأصيل) فساروا على السنن، والتزموا السبيل، فتمسكوا بالكتاب، وفكروا بالوحي، وتفقهوا بالسنة، فما اتبعوا شبهة، ولا أحدثوا بدعة، وما كان لهم خارج الكتاب والسنة فكر ولا رأي، وإنما كانوا رحمهم الله من وحي الإسلام يصدرون، وفي رحاب الوحي يفكرون، حين يقضون، وحين يفتون، وحين يؤلفون، وحين يكتبون، وحين يدرسون، وحين يجادلون، ثم جاء من بعد السلف (خلف) وفي الخلف أصناف، فيهم الهاجر للكتاب، والنابذ للسنة، والمتفقه بالتقليد، والمفتي بالرأي، والمتفلسف بالكفر، والمفكر بالشبه، والمتصوف بالجهل، ولكن “الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل سنة من يجدد لها دينها” – (أبو داوود والحاكم) – وفي إطار الدين، وفي رحاب الوحي، وعبر عهود هذه المئات من السنين حتى عهدنا الحاضر ظل رجال (الفكر الإسلامي الأصيل) يصارعون من توزعت بهم الآراء، وأضلتهم الأهواء، واختلفت بهم المذاهب، ويقارعون بأصيل الفكر، وحجج العقل، من أعداء هذه الأمة، من نصبوا لها العداء، وشنوا عليها الغارات، يحرفون تاريخها ويقدحون في دينها وفكرها، ويشككون في قيمها، وأنهم على سنن (الوحي) سائرون لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

وبعد فلئن كانت هناك كلمة جامعة مانعة يحسن أن نأتي بها كتعريف جامع ومانع للفكر الإسلامي في ختام هذا الكلام فإنما هي كلمة الرسول عليه السلام: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ )ابن ماجه.( إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) الترمذي

وما كان عليه النبي وأصحابه لم يكن حكمة الهنود، ولا فلسفة اليونان، ولا أدب فارس، ولا ليبرالية الغرب، ولا جدلية ماركس، وإنما كان (الوحي). ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم 1-3).

ومن ثم كان حقا ما أثبتناه من أن (الوحي عماد الفكر الإسلامي).

 


1-إنه الفقيه محمد بن محمد بن الطاهر بن الحاج التاغي، المعروف بالفقيه الحمداوي، واحد من رجالات امزاب العظام، وأحد الوطنيين الأحرار، جمع بين العلم والمقاومة، ونال شرف التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944
ولد سنة 1913 بدوار الزوية بنواحي مدينة ابن أحمد، وحفظ القرآن الكريم وتلقى تعليمه الأولي بزاوية جده (الزاوية التاغية )، ثم أكمل مسيرته العلمية في زاوية النواصر، ثم في جامعة ابن يوسف في مراكش، ثم في جامعة القرويين بفاس، وهناك سيلتقي بالزعيم علال الفاسي، فيلتحق بحزب الاستقلال وبالمقاومة ضد الاستعمار الفرنسي.
يقول عن نفسه في مقال نشر في العدد الأول من مجلة دعوة الحق:”…وفي هذا المسجد(الزاوية التاغية) حذقت كما حذق رفقائي في الدراسة، في ذلك الوقت مقدمة ابن أجروم، وأتممت دراسة ألفية ابن مالك، وجزء العبادات، ومعظم جزء البيوع، من مختصر خليل، وعلم الفرائض من مختصره، ومتن ابن عاشر، وجزءا كبيرا من المنطق بشرح بناني…”
ثم يقول:” وقد انتقلت بعد أن أصبحت لدي ملكة علمية إلى زاوية النواصر(…)، وقد مكثت في هذا المسجد ما شاء الله أن أمكث، قبل أن أرحل إلى مدينة مراكش، ثم فاس، وأخذت عن كثير من شيوخ العلم به…”1

وجاء في مقال بجريدة الاتحاد الاشتراكي: ارتبط بالحركة الوطنية سنة 1930 حينما كان طالبا بجامعة القرويين، والتقى بالزعيم علال الفاسي سنة 1934، واعتقل بالبيضاء أثناء المظاهرات الاحتجاجية على نفي قادة الحركة الوطنية، ودخل سجن لعلو، وسجن غبيلة “2

وقد كتب عنه الدكتور عبد السلام الهراس في جريدة المحجة الإلكترونية عدد 142 قائلا:إن هناك أفذاذا من الناس تتمنى لو كنت عرفتهم من زمن بعيد ومن هؤلاء الفقيه محمد الحمداوي…كان لقاؤنا في شهر غشت…وكان اتفاقنا تاما في أن المستقبل للإسلام، ولا مجال في بلادنا العربية لأفكار أخرى. وهكذا بدأ الارتباط ونشأت الأخوة وما عاد إلى بيته بالبيضاء حتى تعاهدنا أن ننأى بأنفسنا عن البوليتيكا وعن الحزبية ونخصص ما بقي من عمرنا للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة، نوقظ الوسنان وندل الحائر ونحاور المتشبت بالباطل ونكتشف أهل الحق ونربط الصلات بينهم ونحاول أن نحقق الخلايا الأولى لأهل المحبة والصفاء والتعاون على الخير والتسامح…

ويقول: كنت أقول له دائما: لقد جاهدت وسجنت ونفيت من أجل استقلال المغرب، وقد أكرمك الله حتى أتممت مسيرتك إذ لم يهاجمك المرض إلا بعد أن رميت البذور الإسلامية والفسائل الربانية في هذا البلد المسلم العريق…”3

ونظرا لقيمته العلمية والنضالية فقد تم تخليده بإطلاق اسمه على عدد من الأزقة وثانوية وقاعة ثقافية في مدينة ابن أحمد.

رحمه الله وأسكنه فسيح جناته

الهوامش

1*محمد الحمداوي: مقال بعنوان:من الحلقات المفقودة في تاريخ الزوايا المغربية –مجلة دعوة الحق-العدد الأول –ص22

2* جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 6/4/2004
3* عبد السلام الهراس جريدة المحجة الإلكترونية العد

عن habib

شاهد أيضاً

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني

ذكريات أم في القدس   قصيدة للشيخ أبي عبد الله الزليطني من أين أبدأ هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *