طوال التاريخ نال علماء الحنابلة من الأذى ما يكاد يكون أوفر من غيرهم..ولعل من أسباب ذلك
1-التزامهم الشديد بمنهج وعقيدة الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة
2-تأثرهم بسيرة إمامهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل
2-الصدع بالإنكار على المخالف حكاما وأمراء وعامة وعلماء
3-الميل الظاهر لعلم الحديث والآثار
4-غلبة الزهد والتقشف والعبادة عليهم
5-حرصهم على نشر العلم والتأليف فيه ووعظ الناس ونصحهم
6-تجنب معظمهم المناصب
وقد ابتدأت محنة الحنابلة من زمن الإمام أحمد الذي تصدى لجبروت المعتزلة وقمعهم وأذاهم.
ثم جاء من بعده أئمة وعلماء نالوا من الأذى ما سطّرته كتب التاريخ والتراجم، فمنهم على سبيل المثال: القاضي أبو يعلى الفراء وأبو اسماعيل الهروي الذي عرض على السيف 5مرات،وأبوجعفر العباسي من بيت الخلافة العباسية،وعبد الغني المقدسي، ومحمد بن عبد الباقي سجنه الروم وعذبوه ليكفر فامتنع وتعلم لغتهم،وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم وعدد من تلاميذهما.
ثم أقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب دولة حنبلية
لأول مرة في التاريخ حسب علمي..وأوذي عدد من علماء الحنبلية لمخالفتهم له أو لسلوك الدولة التي أنشأها.
ثم لما استقر الحكم لعبدالعزيز قرّب من أيده وخضد من نصحه أو عارضه ومنهم-على سبيل المثال- القاضي النجدي محمد الجنوبي الذي نصح عبد العزيز فضربه بمحضر العلماء بأسفل قراب سيفه فشرم شفته،وأرهب العلماء بفعلته،ومنهم الشيخ العالم عبدالله بن عمرو الذي أنكر أموراً من غلو بعض علماء الرياض المقربين من عبدالعزيز كالحكم على سائر البلاد بالكفر وتحريم السفر إليها وتكفير من خالفهم..فقبض عليه عبدالعزيز في الشماسية وأودعه سجن المصمك ثم أمر بإخراجه إلى مقبرة شلقى فحُفرت له حفرة وقُتل عندها وأهيل عليه التراب سنة1326هـ وتشتت ذريته فمنهم ناس في حماة الشام ومنهم من في القحمة شمال جيزان.
ثم توالى الحكام فنشروا كتب المذهب وغيرها واتخذوا مفتين وهيئة علماء،وأقيمت كليات شرعية على فقه الحنابلة وأصولهم،وشاع العلم حتى أصبح مفخرة لمن يسلك طريقه،ولكن صاحب ذلك شدة في قضايا التبديع،ونال بعض المسلمين منهم الجَنَف،كالذي حصل لاتجاهات دعوية،ومدارس كلامية كالأشاعرة الذين نالوا النصيب الأوفى من النقد، حتى كاد بعضهم-لكثرة التركيز-يرى أن الأشاعرة أخطر من الحداثيين الملحدين !،وحصل من بعضهم زهو واعتداد بما يرونه في أنفسهم من صحة المعتقد وسلامة المنهج صاحب ذلك زلل وخلل وتجانف غير حميد.
وبعد أحداث سبتمبر 2001 وضعت مؤسسة راند وأشباهها تعليماتها لإبعاد تأثير الإسلام على المجتمعات،ومن هذه التعليمات إيجاد “الإسلام السكوني مكان الإسلام الحركي” والنظر في تفكيك الفكر السلفي والمذهب الحنبلي الذي وصفه زوج مديرة راند زلماي خليل زادة بأنه مذهب متشدد إقصائي يدعم الإرهاب !!
وفي عهد عبد الله سلّم الأمور للعلمانيين بتدرج واحتيال، ثم خلفه سلمان الذي كان يرى أن سقوط الدولة سيكون بأحد أمرين: اختلاف عائلتهم،أو قوة أهل العلم والدين، وأوكل لولده أمر البلاد فبطش بآل سعود سجناً وضرباً وسلباً للأموال ومنعاً من السفر
وبطش بعلماء أجلّاء وعبث بالقضاء الشرعي وأصدر قوانين وضعية ملزمة، وسجن وفصل وضيّق على قضاةٍ وعلماء للدولة غالبيتهم حنابلة،وضُرب المذهب الحنبلي في نجد وأقطار الجزيرة ضربة لم يحدث لها مثيل في التاريخ،وصادر جهود الشيخ ابن عبد الوهاب،وزعم مزاعم يكذّبها التاريخ،وأشاع أنهم دولة لم تقم على الدين بل قبيلة انتصرت في الحرب ،وصار يصدر باسم هيئة كبار العلماء بيانات من الأمانة العامة وهم لا يعلمون،ولا عن أنفسهم يدفعون،أو يكرههم على إصدار فتاوى وتصريحات ضد بلدان وحكّام وهيئات علمائية وجماعات دعوية، وجعل مكان التضييق على العلماء توسعة لدعاة الإلحاد والفجور،وسلّط كتاباً في الصحف وغيرها يحرّفون الدين ويكذبون عليه،حتى غدا الصحفي يفتي ويحلّل ويحرّم،وعلماء الحنابلة وغير الحنابلة مستضعفين لا يستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا.
ومكّن لأناس من سلالة الشيخ ابن عبدالوهاب فمنهم من تسلط على خطباء الجوامع،ومنهم من أشاع التبرج والفجور والانحلال،ومنهم من شارك في تعذيب أمراء وتجار،واقتطاع ما يملكون بالقوة.
وكما حصل في فتنة المعتزلة مع الإمام أحمد وأمثاله، فهناك من المنتسبين للعلم من أجاب في فتنة ابن سلمان وأعلن تأييده لسجن العلماء وإقصائهم،وهناك من صمت خائفاً،وهناك من يظهر معه في الإعلام لصبغه بصبغة شرعية،ومن أشرس من استعملهم ابن سلمان،فرقة تنتسب زوراً للحنبلية والسلفية،وهي فرقة جمعت نقائص فرق سلفت،فهم مع علماء الإسلام ودعاته أشبه بالخوارج،أما مع الحاكم فهم مرجئة غلاة،وتنسب هذه الفرقة الجامية لرجل كتب ولده عنه أنه كان يعمل مخبراً، ويكتب التقارير،وتأثر بهؤلاء بعض كبار الحنابلة،فأفتى أحدهم أن من ينتقد الدولة فإنه يُبلّغ عنه،وأن بغض الحاكم الفاجر نفاق.
وظهر في بعض بلدان نجد طائفة تسمّى الحنابلة الجدد،لهم آراء تصبّ في صالح مشروع ابن سلمان،وتضاهي جهد كتّاب الصحف المتصدين للدعوة الإسلامية ووسائلها.
ومن أهم إطلاقات هؤلاء الحنابلة الجدد قولهم بأن أي جهد علمي مشفوع بالدعوة والإرشاد وتحبيذ الحق والتنفير من الباطل؛ فهو جهد ليس من العلم والموضوعية في شيء !، واعتبروا العالم والباحث إذا مارس ما يسمونه (الرسالية) فقد خرج إلى الدعاية والأدلجة،وهذا شبيه بالمشروع الذي انطلق زمن عبدالله في مقاومة التعليم الرسالي،أي مزج العلم بتوجيه تربوي،وإرشاد شرعي..فكان هؤلاء الحنابلة الجدد رافداً من حيث لايشعرون في الجائحة السلمانية،إلا أنهم لايشبهون الجامية،بل هم أصحاب اطلاع وذكاء،ونقد وفحص يستحق النظر والإفادة منه،ولو أنهم جاءوا في غير زمن الفتنة،لكانوا أشبه بمدرسة ابن عقيل الحنبلي وابن الجوزي،من ناحية البحث والمدارسة،ولو أنهم خفّفوا من الاستعارات الأخرى كاعتماد التاريخية منهجاً حتمياً،وتوهمهم أنهم غير “مؤدلجين” والعبارات اللاذعة والقطعية في أمور نسبية؛لكان لهم أثر،ولعل من النفع لهم أن يتأملوا بـ”موضوعية”في علة السماح لهم بأن ينقدوا ويهاجموا في زمن ضويق فيه الحنابلة الأصليون، وشُكك في بعض مصادر التشريع وهوجمت فيه مدرسة ابن تيمية.
فهل بعد هذا سينزوي المذهب الحنبلي في المكتبات وزوايا العلم الخاصة..أم أنها غمّة ستنقشع ويبقى للحنابلة دولة وصولة ؟
وهل سيوجد جيل جديد من علمائهم يواصل المسيرة العلمية ويصحح الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم ؟