كانت الساعة جاوزت الواحدة بعد منتصف ليلة الثامن من فبراير 2010 عندما دخلت زوجتي مسرعة إلى حجرة النوم لتوقظني على غير المعتاد ولتخبرني أن لدينا ضيوفاً من أمن الدولة ولم تكد تكمل جملتها وانتبه من نومي (حيث أنام مبكراً بعد العاشرة بقليل) إلا وكان داخل الغرفة ثلاثة رجال عرفت منهم العقيد “سيد عبد الكريم” وهو الاسم الذي أتذكره له وشغل سابقاً موقع وكيل إدارة أمن الدولة بالجيزة. لم أكد أفيق للتأمل في الزيارة التي سيعقبها كالمعتاد شهور أو أسابيع أو سنين رهن السجن، فقد جلست على حافة السرير وبدأوا هم في التفتيش عن الأوراق التي تملأ البيت والمكان، ورحبت بهم وتركت لهم المكان ليقوموا بواجبهم الثقيل ويجمعوا ما شاء لهم من أوراق هي مقالات أو دراسات أو مشاريع لبحوث أو محاضرات جلسات أو أوراق لندوات … الخ.
لم يهتموا هذه المرة بالأموال التي لا توجد أصلاً، وعندما سأل عنها خطفت زوجتي ظرف به مصروف البيت لتقول بحزم وحسم هذا هو مصروف البيت وعندما توضأت وطلبت من زوجتي إعداد فنجان قهوة لي ولهم، رفضوا بأدب وتركوني لأحتسي قهوتي التي جاءت مبكرة عن موعدها بساعة أو ساعتين وانشغلت زوجتي بإعداد حقيبتي ذات الملابس البيضاء التي تذكرك إما بإحرام الحجاج والمعمرين أو أكفان الموتى والراحلين عن تلك الحياة، وظل لسانها يذكرهم بعاقبة الظلم والظالمين. وفي طريقي بدأت أتأمل في فوائد السجن الذي تأخر هذه المرة لعامين، فقد نزلت ضيفاً على سجن المزرعة بطرة عام 2005 أثناء حراك انتخابات الرئاسة وخرجت قبل أيام من انتخابات البرلمان، ثم 2006 بسبب مظاهرات استقلال القضاء ثم عام 2007 لأدخل لأول مرة سجن عنبر المزرعة لمدة 50 يوماً عقب عزومة غداء الأستاذ نبيل مقبل. صحبت معي بعد إعداد زوجتي لحقيبتي سجادة الصلاة، وحكم ابن عطاء الله، وكان القرآن العظيم في صدري محفوظا، وتوكلت على الله الذي استشعرت معيته منذ لحظة انتباهي من نومي لأبدأ رحلة جديدة إلى سجن جديد هو سجن القاهرة للمحبوسين احتياطياً المعروف باسم سجن المحكوم وهو ملاصق لسجن ليمان طرة الذى يطل على نهر النيل، ولم أدخله من قبل إلا زائراً للزملاء في زيارات نقابية. ومنذ الليلة الأولى لي، بل منذ اللحظة الأولى كانت في خاطري فوائد السجن المتعددة، فلكل محنة منح ربانية، ومع كل شدة فرج عظيم، وللسجن فوائد عديدة لو تعلمون، عافاكم الله وعافانا من السجون ومتعنا بفوائده في سجن الدنيا الواسع الفسيح الذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، بمعنى أن المؤمن ينطلق من الدنيا كالحبيس المسجون إلى حريته الطليقة في الدار الآخرة، حيث يتمتع بكل المحظورات التي كانت محرمة عليه في الدنيا، و ينطلق من القيود التي قيدته بها الشريعة في المحرمات والمكروهات. فوائد سبع وغيرها كثير: 1- الخلوة مع الله بالرضا والتسليم والصبر واليقين والتوكل. 2- صحبة القرآن بالمراجعة والحفظ والتأمل والنذير. 3- الأنس بالتهجد الطويل خالي البال من هموم الدنيا. 4- الإقبال على مخ العبادة بالدعاء والتفكر والنظر في حكمه الله تعالى. 5- التعرف على الإخوان والخلان والأحباب الذين فرضت عليك صحبتهم دون اختيار. 6- العناية بالأهل والأولاد والأحفاد في زياراتهم الدورية. 7- ظهور المواقف المختلفة للأطراف المتعددة وصدق الأخوة في الله، وبيان معادن الناس.
وهناك فوائد أخرى تتفاوت باختلاف الأفراد وتنوع اهتماماتهم، فالدراسة والبحث والكتابة والتأليف إذا ساعدتك الظروف ويكفي أن الشهيد سيد قطب أعاد كتابة 13 جزءاً من “الظلال” أثناء سجنه وكثير غيره فعل ذلك. وهنا كما يُعرف بأدب السجون. وهناك التأمل في وجوه السجناء إذا كنت في سجن به جنائيين والاستماع إلى قصصهم المسلية ونوادر الحياة، فهذا هو الوجه الآخر للوطن، عالم المهمشين الضائعين، عالم المجرمين ومعتادي الإجرام من قتلة وسارقين أو تجار مخدرات وهاتكي عرض … الخ. وهناك تذوق أطعمة جديدة والتعرف على طرق مختلفة للطهي، والتعود على مشروبات لم تألفها إذا ساعدتك الأحوال وكانت هناك زيارات. والعاقل من يتزود من سجنه لحياته، فلن يبقى في السجن إلى أبد الآبدين، فإما أن يعود إلى الحياة الدنيا من جديد، لكدها وتعبها وعنائها، وهذا هو الغالب، فإذا كسب معية الله الدائمة وشعوره الدائم المستمر بحفظ الله له، راضياً بقضائه وقدره، مسلماً له في كل أموره، متوكلاً عليه في كل شؤونه فقد فاز وأيم الله بالجائزة الكبرى وأما أن ينتقل إلى الدار الآخرة، وهؤلاء قليل، لكنهم يخرجون من سجنين، الدنيا والليمان، إلى رحمة من الله ورضوان، طاهرين متطهرين إذا أقبلوا على الله فأحبوه، وأحبوا ما يرد إليهم منه من أحكام قدرية، وعاشوا في ظلال رحمته يناجونه بالليل وبالنهار. وإذ عشت مع القرآن تتذوقه وتتأمل في معانيه، وتمتن حفظه حتى يكون سلساً سهلاً على لسانك، فتسعد به بعد أن كنت تتتعتع فيه وهو عليك شاق، فيستقر القرآن في صدرك وينطبق عليك الوصف النبوي (( أناجيلهم في صدورهم))، فتختم القرآن في صلاتك في بضع ليال، خمس أو ست، وتتدبر في آياته العظيمة وأحكامه الشهيرة فتخرج من السجن فتداوم على تلاوته في صلاتك وحتى لو انشغلت في حياتك فستختم القرآن في الشهر مرتين حيث تحرص على الإسراع إلى المسجد قبل سماع النداء وتصلي السنن باطمئنان وتعيش في أجواء القرآن. وقرآن التهجد غير بقية الأزمان، فهو الأنس العظيم بالقرآن الكريم، وهو المشهود من رب العالمين، وهو السبيل إلى المقام المحمود وصحبة الأطهار من الصالحين، حيث تصف أقدامك بين يدي المحبوب لتناجيه وحدك والناس نيام وقد قام المحبون ساهرين تخشع قلوبهم لذكر الله، وتدمع عيونهم شوقاً إلى الحبيب ولقائه، فمن أحب لقاء الله أحب الله لقائه. والشعور بالظلم مع معاناة الاضطرار، والإحساس بالفقر مع قهر الإذلال بالأغلال يجعل للدعاء طعماً آخر، فهو هنا العبادة ذاتها، دعاء من يشعر بالقرب من الله فلا يدري أي اختيار له أفضل، اختياره لنفسه بالحرية الزائفة والتحرر من قيد السجن أم اختيار الله له أن يخضعه لقهره وجبروته ويشعره بذله واحتياجه. ومع الدعاء الطلب إلى الله بقضاء الحوائج التي كنت تظن أنك أنت الذي تقضيها، فها أنت محبوساً مقيداً، فمن الذي يقضي حوائجك وييسر لك ولأهلك كل الأمور، إنه الله مالك الملك ذو الجلال والإكرام، قيوم السماوات والأرض. وفي أوقات الصحبة مع الأخوان تتعرف عليهم عن قرب، فأنت تعيش معهم أكثر مما تعيش مع أهلك، وتصحبهم لسنوات، ولا يستطيع أحد أن يتجمل أو يلبس الأقنعة، ولو أراد ما استطاع، ومع مرور الوقت وتوالي الأيام تكتسب خبرة جديدة من كل مسجون معك، فها هي خبرات حيوات الأخوان تضاف إلى رصيدك، وها أنت تتعرف على طاقاتهم و بداياتهم وهمومهم وأهلهم وأسرهم ولو قضيت عمراً في الخارج لما استطعت ذلك. وهؤلاء الذين بالخارج تظهر معادنهم وأخلاقهم، دون أن تشعر بأي مشكلة معهم، فتعذر المقصر وتحمد الله على سلوك الكرام الذين داوموا على الاتصال ببيتك وتفقدوا أهلك وأولادك من أهل وأشقاء أو جيران وأصحاب أو أخوة وإخوان أو نخبة وكتاب أو رفاق درب في الإصلاح. أما الأولاد والزوجات ففي الزيارة المتكررة لهم فائدة عظيمة في تفقد أحوالهم بالعناية التامة والسؤال المستديم والتفاصيل الدقيقة والأخبار التي لا تنقطع عن كل جزئية تتعلق بالصحة والعافية، والدراسـة والتحصيـل أو الكسب والمعيشة … الخ. السعيد من تزود من سجنه لحريته، فداوم على اقتناص تلك الفوائد بعد خروجه، فعاش لربه مناجياً، ولقرآنه تالياً، ولإخوانه ناصحاً، ولبيته راعياً وعلى باب ربّه داعياً، ولدعوته ماضياً ولبيعته مع الله موفياً، ولآخرته مستعداً، وبقدر ربه راضياً