على الدينارى
ليلة فرح -سجلها لكم /على الديناري
ليلة فرح
سجلها لكم /على الديناري
* لكل شدة حصاد.. وفي ثنايا كل محنة منحة أو عشرات المنح أو مئاتها.. وعظمة المنحة على قدر المحنة.. وقيمة الحصاد على قدر الشدة.. فكلما كانت نار الشدة أشد كانت ثمارها أجود.
* ومن أعظم ثمرات المحن المتتالية التي مر بها الشباب المسلم في التسعينات.. هو الأخوة في الله والحب الصادق الخالص الذي ذاق منه نوعا ً من نعيم الجنة.. وهو لا يزال يعيش على الأرض من ناحية أخرى.
* فإن سنة الله في اليسر بعد العسر والفرج بعد الكرب ليست مجملة.. بل مفصلة بمعنى أن اليسر الذي يرسله الله تعالى يظل يتتبع آثار العسر والكرب.. فلا يترك له أثرا ً من حزن إلا قضى عليه وأبدل صاحبه فرحا ً.. ولا يترك كسرا ً إلا جبره.. ولا يترك جحرا ً في النفس دخله الهم إلا دخله فأخرجه.. حتى ليالي الهم والغم التي قضيناها في الزنازين أبدلها الكريم المنان ليالي فرح وفرج وسرور.
* وهذه المعاني لو كتبت فيها مجلدات ما وسعتها.. ولكن وجدت في أوراقي ما كتبته ذات ليلة من هذه الليالي تحت تأثير النشوة والتلذذ والاستمتاع الذي كان يُسجد القلب لله قائلا:
سبحانك حتى هذه ما تركتها؟!!
ولا أطيل بل أصحبكم معي إلى ليلة من ليالي الفرج..
* تسرب الخبر من أحد الضباط على سبيل التهنئة إلى الشيخ “إبراهيم ياسين” قبلها بيوم.. فأراد أن يكتم الخبر إلا عن المقربين إليه.. حتى يتمكن من ترتيب أموره قبل الرحيل.. ولكن سرعان ما جاءت قائمة الإفراج بالفاكس يتلألأ أولها باسم “إبراهيم ياسين محمود” المعتقل منذ أربعة عشر عاما ً.**
* ساد السجن وجوم شديد وصمت ظاهر يخبئ همسا ً خفيا ً.. إذ كل إنسان هنا لا يدرى: هل يحزن للفراق ؟! أم يفرح للفرج؟!.
مضى النهار والشيخ إبراهيم لا يزال في صدمة من الخبر؛ ومشاعره لا تزال تمور في أعماقه، ولا يظهر منها على السطح شيء فلم يحدث بعد ما يخرجها من مرقدها سوى التهاني المختنقة بشجون الفراق من البعض.. وهموم الخوف على المستقبل من البعض؛ إذ يشعر هؤلاء أنهم بمشاكلهم لا يستطيع أحد أن يتحمل أناتهم وشكاواهم ولا أن يتسع لهم صدره.. إلا رجل مثل الشيخ “إبراهيم”.. فصدره صدر والد للجميع.
عزمنا على أن نحتفل بوداعه قبل رحيله بساعات كما اعتدنا مع المفرج عنهم.. إلا أننا حين دخل علينا الليل ودخلنا العنابر تدفقت الإشجان.. وكان لابد لهذه الإشجان أن تجد متنفسا وتصريفا ً، وعز علينا الانتظار حتى الصباح ونحن رفقاؤه في زنزانته؛ ومن منا سيقربه النوم هذه الليلة؟!
* على السريع رتبنا الحفل البسيط.. ودعونا بعض الإخوة ذوى الأصوات الجميلة.. وجلسنا تتفجر من وجوهنا البهجة وتعلو الضحكات.. إلا هو فقد جلس صامتا ً شاردا ً.. ثم أمسك ورقة وقلم يكتب رسالة لإخوانه في السجن.
* كان افتتاح الحفل بالقرآن موفقا ً.. إذا اختار آيات من سورة الحجر: “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ* وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ* لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ”
* أقول كان موفقا ً.. لأنه أمتع القلوب التي جرحها خبر الفراق ببشرى من القرآن بحياة لا فراق فيها.. ثم أفسح معد الحفل ـ الأخ صافى ـ المجال للأناشيد التي تألقت مع المشاعر فتوهجت في العيون الفرحة.. وردد الإخوة المنشدون وعلى رأسهم الأخ هريدي.. ورددنا معهم بكل نشوة :
يا رب باسمك ها نبدى أجمال ليالينا
سلام على اللي حضر أو جا يهنينا
إخواننا بكل الحب جونا جونا بيهنونا
والصحبة دي صحبة ورود بشراها بتحيينا
وملايكة جاية بتطوف وترفرف حوالينا
ونسيم الجنة الفواح عطر ليالينـــــا
* حقا ً أحيتنا هذه البشرى وكم كنت ظمآن لهذه الكلمات القوية، والألحان الشجية، والأصوات الندية التي تخرج الروح من قبر اليأس إلى روض البشرى والأمل؛ ولقد سرت هذه الكلمات حقا ً كما تسرى الروح في الجسد تجدد معاني اليقين السامية التي ضمرت.. وأكلتها عبارات تترامى كل يوم من هنا وهناك تتبرم من توقف قطرات الإفراج فيتجدد الأسى.. وأنطلق ثم أشجانا الأخ بنشيده:
يا فرحه لفي وضمينا وربنا يرضى علينا
بالحب والله أتلاقينا وللضيوف بنقول مرحب
* ثم قدم الشيخ الضامر لكلمة الشيخ يوسف فهو في مقام الوالد لجميع الحاضرين فحمد الله بصوته الوقور.. ثم قال:
“حقيقة ليس غريبا ً على الإخوة أن نرى منهم كل هذه الفرحة الغامرة.. وهم الذين يفرحون لغيرهم.. بل ويؤثرون غيرهم على أنفسهم بالفرج؛ فقد سمعت أحد الضباط في السجن وهو يحكى مستغربا ً أنه سأل كل أخ له شقيق معه في السجن: من فيكم يخرج أولا ً؛أنت أم أخوك ؟ فيقول : أخي.. فإذا قابلت أخاه وسألته نفس السؤال قال أيضا ً: أخي يخرج قبلي.
ثم قال الشيخ: لقد أجريت أنا استطلاعا ً فسألت عددا ً من الإخوة: لو أنهم تركوا لنا اختيار عدد منا للإفراج عنهم.. فهل لديك استعداد أن تؤثر أحدا أن يخرج قبلك ؟ غالبية من سألتهم قالوا: نعم”.
لفت أنظارنا الشيخ إبراهيم عروس الليلة وهو يجفف دموعه.. فقرأ الأخ صافى بعض الأبيات المعبرة:
قبيل الوداع رأيت العيون بدمع غزير تبث الأنين
دنوت أكفكف دمع الوفاء وقلت لقانا قريبا يحين
مضينا سويا بكل الشداد فذابت بأنسك كل الشجون
وكم كان للداء منك الدواء بنظرة عين تشع الحنين
* أراد الشيخ يوسف بفطنته أن يغير من جو الحزن الذي أشاعه بكاء الشيخ إبراهيم فقال: أحكى لكم مواقف طريفة:
“في سنة 81 رأيت في منامي وأنا في المعتقل أنى أمشى في حديقة فقدم لي صاحبها صينية عليها عنب وبرتقال فاستيقظت سعيدا مسرورا وبحثت عن أحد يفسرها لي حتى وجدته فقصصتها عليه.. فسألني:
هل أكلت الاثنين معا البرتقال والعنب؟
قلت سعيدا ً: نعم .
قال متبسما ً: وهل كان البرتقال والعنب ناضجين؟
قلت منشرحا ً ومتبسما ً: نعم كانا مستويين جدا ًجدا ً.
وأخذ يسألني وأنا أجيب بابتسام وسعادة واستعجال على التفسير والبشرى بالرؤية السعيدة فابتسم الأخ وقال: يا مولانا.
قلت : نعم
قال : ستشرفنا في المعتقل الفصلين معا ً الشتاء والصيف.
ضجت الحفل بالضحك وعبارات التعليق المرحة.. في جو تحلق فيه الأرواح من السعادة بفرحة الإخوة.. وأنشد الإخوة نشيد:
ريح الصبا هيا نعطر الآفاق
من ريح من نهوى وكلنا مشتاق
مُري بروضته يا ريح واغتنمي
ثم املأي الدنيا بالأنس والعطر
* ثم جاء دور الشيخ إبراهيم ليلقى كلمته فحمد الله بصوت مختنق.. ثم قال: في مثل هذه المواقف تختلط المشاعر… ولكن أبدأ بحمد الله على منته وفضله.. وكان نفسي أجلس مع الإخوة جميعا أستسمحهم وخصوصا الإخوة الذين تحملوا من أجل إخوانهم الكثير.
وخنقت الدموع صوت الشيخ إبراهيم فتوقف عن الكلام فأنشد الإخوة:
سنوات عمري لا تضيع مع البلاء
ما دام قلبي خالصاً من غير داء
فالعمر يمضى لا محالة للفناء
والأجر عند الله كان له البقاء
أنا عشت دهرا ً في جموع الحائرين
ولبثت رغم زخا رف الدنيا حزين
حتى انحنى لله قلبي والجبين
وسعدت بالإيمان رغم لظى البلاء
* أخذت هذه المعاني المقتبسة من القرآن والسنة تنساب إلى أعماقي مع طرب الصوت وسعادة المناسبة.. ولم أكن أريد لها أن تتوقف عن التدفق لتروى كل الأنحاء في وجداني.
* وجاء الدور عليَّ في الكلمة بعد أن أسرني هذا النشيد بمعانيه فلم أخرج عن تلك المعاني.. خصوصا ً وقد كنا ـ الشيخ إبراهيم وأنا ـ نتحدث قبل الحفل في هذه المعاني مؤيدين لها بوقائع حدثت من الواقع.
* تكلم بعدى الشيخ محمود الضامر فحمد الله تعالى بصوت تخنقه الدموع فهو صديق حميم للشيخ إبراهيم وهو الذي سيحمل الأمانة بعده قال:
اختلطت مشاعري ما بين فرحة عظيمة بخروج الشيخ إبراهيم وبين ألم الفراق.. فوالله إن خروجه أحب إليَّ من خروجي من السجن ولكني ما كنت أود أن تختلط فرحة الفرج بألم الفراق مع الهم الثقيل للحمل الثقيل.
وللمرة الثانية تختنق الدموع وتحتقن المآقي فتحبس الكلمات وتعقد اللسان فقد بكى الشيخ محمود فتوقف عن الكلام وأنشد الإخوة:
جنان السلام إليكِ الكلام بقلبي رجوت لقاء الكرام
ولقيا الرسول بدار السلام وعيشا هنيئا ونيل المرام
بجنات عدن يكون اللقاء ونحيا خلودا ويفنى العناء
ويوم المزيد يطيب اللقاء برب كريم له الكبريــاء
ثم قص علينا الشيخ يوسف موقفا ً طريفا ً حدث معه في روسيا وأنشد الإخوة بعده نشيد:
فرج الله على الأبواب يا بشرى أهل الإيمان
يوشك يطرقها كي تُفتح ولقد سطع بنورٍٍٍ دان
هذا وعد الله كفانا أصدق وعد في القرآن
فرج الله قريب حقا ومع العسر أتى يسران
ومع العسر أتى يسران
ختم الأخ صافى الحفل وردد كل منا: “سبحانك اللهم وبحمدك.. نشهد أن لا إله إلا أنت.. نستغفرك ونتوب إليك”.
ساعة وداع
* لم ينم أي أحد منا تلك الليلة.. ولم ينقطع كذلك بكاء الشيخ إبراهيم.. وما أن أصبح الصباح وفتحت أبواب الزنازين حتى جمع مسئولي العنابر ليعتذر إليهم ويستسمحهم؛ وحاول أن يتكلم فلم يستطع أن ينطق بكلمة واحده.. فطلب منى أن أتكلم بالنيابة عنه فقد حدثني من قبل فيما يريد أن يقوله لهم فقلت:
يريد الشيخ إبراهيم أن يستسمحكم ويعتذر إليكم إذا كان قد قسا على أحدكم.
فتمتم الإخوة في وجوم وقالوا: والله ما رأينا منك إلا خيرا ونحن الذين نريد أن نستسمحه.
وبكى الشيخ إبراهيم فسيطر جو الحزن على الحاضرين كأننا في جنازة ولسنا في يوم فرحة.
• قام الإخوة يعانقون الشيخ إبراهيم.. فأشتد بكاؤه حتى تحول إلى نحيب عندما عانقه صديقه الحميم ومساعده على أداء الأمانة الشيخ “رجب حسن”.. وطال عناقهما ونحيبهما وارتفع صوتهما بالبكاء والنشيج.. وطال حتى هم الإخوة بالتفريق بينهما.
كنت أكثر الناس تماسكا ً.. فقد كنت أعلم ظروف الشيخ إبراهيم التي كنا قد تشاورنا فيها كأصدقاء.. وكان ابنه في حاجة إلى عملية وفكرنا واحترنا.. فبينما كنت أرى أنها عاجلة ولا تنتظر خروجه.. كان هو لا يرى حلا ً إلا الانتظار حتى الخروج لأنها لا تتم إلا في القاهرة.. وأسرته لن يمكنها ذلك.. وكان إحساسنا أن خروجه مازال بعيدا ً.. فلما جاء الخبر كان كالغيث والمخرج من الحيرة بالنسبة لي.. ولا أدرى كيف سيطرت عليه هو مشاعر الفراق وهذه الظروف هي ظروفه هو؟!!
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
* فلما كنت أنا أكثرهم تماسكا ً تركتهم لدموعهم.. ووقفت لأتأكد من تمام التجهيز لحفل وداع الشيخ إبراهيم.. الذي أريد في الحقيقة أن أنفس فيه عن مشاعري التي لم تزدها أناشيد الليلة إلا تفجرا ً.. فكنت ظمآن إلى المزيد من المعاني والأناشيد والأنغام والأصوات الجميلة.
* تجهزنا للحفل في تريض (فناء) عنبر 10 الذي أعده الإخوة ببعض الستائر ليناسب الحفل.. لم يستطع الشيخ إبراهيم كالعادة أن ينطق بكلمة واحده فاكتفى بقراءة رسالته التي أعدها من الليل.. فجلس الإخوة متزاحمين يستمعون لكلمات الرسالة ويشاهدون الشيخ إبراهيم وهو يمسح دموعه.. فتحول الحفل البهيج إلى مشهد حزين.. جلست أقلب عيني في وجوه الحاضرين فلا أرى إلا دموعا ً تملأ المآقي.. أو تسيل على الوجنات.
ألقيت كلمتي التي تعجبت فيها من طغيان مشاعر الألم والفراق على مشاعر الفرح والفرج فقلت:
* “ليس عجبا ً أن يبكى إنسان من ألم الفراق.. ولكن العجب أن تغلب مشاعر الفراق مشاعر الفرحة بالفرج من رجل قضى في السجن أربعة عشر عاما ً!!.. لقد وسع الشيخ إبراهيم الجميع بصدره وتحمل الكثير.. وظل محافظا ً على صفائه وحبه لكم وتفانيه في خدمتكم.. ولذلك كان منكم هذا الحب وكانت هذه المشاعر الفياضة وهذه الدموع!
* إنها مشاعر لا تصدر في هذا الزمان إلا من صنف عجيب من الناس هو أنتم.. وليس ذلك بغريب عليكم.. فقد ضربتم من قبل الأمثلة في الصبر وفى الحب وفى الوفاء وفى الأخوة.
* إن ما نراه اليوم هو استطلاع لما في مجتمعنا الكريم هذا من أخوة صادقة وحب خالص وصفاء ووفاء وأخلاق أصبحت اليوم نادرة.
أهنئكم جميعا بهذا الفرج عن رأسكم وهذه بشرى بالفرج عن بقية الأعضاء بإذن الله.. وعقبى لكم جميعا ً لما نبكى عليكم”.
فضحك الإخوة
جاء أحد الإخوة يستعجل إنهاء الحفل لأن إدارة السجن في انتظار الشيخ إبراهيم لتتمم إجراءات خروجه على البوابة .
أنهينا الاحتفال وقمنا للخروج بينما انطلقت المجموعة تنشد:
الآن أرجع يا أهلي ويا عمري وينتهي سفر ويبتدي سفري
ما أن انتهينا من الحفل ووقفنا حتى انكب الإخوة على الشيخ إبراهيم حتى غرق منا بين أيديهم السابحة في الهواء تريد الوصول إليه.
الكل يحاول أن يحظى بالسلام.. بينما هوى إلى الأرض رجل بسيط كان الشيخ إبراهيم هو الصدر الحنون بالنسبة له.. يريد تقبيل قدميه وسط استنكار الإخوة.
* حاولنا أن نبدأ التحرك خطوة للأمام فلم نستطع مطلقا ً.. مما اضطرنا لتكوين مجموعة على الفور تمكنا من الخروج من هذه الشرنقة.. وقد بذلت جهدا ً كبيرا ً حتى استطاعت أن تكون حلقة حولنا ثم تخرجنا بمشقة بالغة من عنبر “10”.
خارج العنبر فوجئنا بكل إخوة السجن.. أي ألفين تقريبا تكدسوا حولنا ولم تنجح كل المحاولات من تخفيف وطأة الزحام.. كما لم تنجح محاولات بعض الإخوة بإعادة الأمر إلى حقيقته وكونه فرحة مفرج عنه.. وليست جنازة مفقود.
* ولم ينس الشيخ إبراهيم أن يطلب منا التوجه إلى المستشفى ليسلم على الدكتور أحمد عبده الراقد مريضا ً هناك مع عدد من الإخوة المرضى.. فتوجه الموكب بكامله إلى هناك.
خيم الحزن وسالت الدموع.. ولم يخرج النفوس من هذا الجو حتى بعض الأناشيد الفرحة وقفشات الشيخ رجب عطا:
ألم أقل لكم إنها مفاجأة؟! لقد جاءت المفاجأة…..
ألم أقل لكم لا قبل لكم بها؟!….
لن يلحق أحد أن يسلم على أحد؟!………
* رجعنا من مستشفى السجن إلى بوابة الإدارة وسط طوفان من البشر.. وكلما اقتربنا من باب الإدارة كلما غلت المشاعر وتدفق السيل نحو الشيخ إبراهيم.. الكل يريد أن يصافحه ويودعه الوداع الأخير.. أو حتى يلقى عليه النظرة الأخيرة على الشيخ إبراهيم.. أما هو فمستسلم للطوفان لا يملك حركة أقدامه.
* تلاطمت المشاعر كما تلاطمت الأجساد واختلطت كلمات الأناشيد من الأصوات المبحوحة بالدمع.. والجميع يحرق فؤاده الإحساس بالفراق.. فيغيب عن حقيقة الموضوع.. ثم يفيق فيحاول أن يعيش فرحة الفرج للرجل الذي أحب الفرج والخير للجميع.
صوت إخوة أسوان المحزون أضاف للمشهد شجون الحزن وأشجان الفراق وهم ينشدون:
مع السلامة يا غالى مع السلامة يا غالي
* عندما أفلتنا وحشرنا أنفسنا داخل الباب زال التعجب من كل ما رأيناه من إخواننا أمام أمر أشد عجبا ً.. فقد رأينا أحد المخبرين قد تنحى جانبا ً وظل يمسح دموعه عن عينيه التي بدت حمراء من فرط البكاء.
بادرته بقولي: حتى أنت؟
قال: إنها عشرة.. وزاد بكاءه.
* طلب الموظفون في المكاتب أن يتمكنوا من السلام عليه قبل أن يفارقهم فطاف عليهم في مكاتبهم يودعهم.. ويهنئونه واجمين متأثرين بفراقه.
لم أر مثل هذا اليوم فرحة مختنقة بألم الفراق إلا في إلا في يوم منذ عشرين سنة.. وهو اليوم الذي تركنا فيه المشايخ في ليمان طره بعد النطق بالحكم في قضية أحداث 1981م.
حاولت أكثر من مرة أن أخرج الشيخ إبراهيم من جو الفراق إلى فرحة الفرج فكنت أهمس في أذنه:
“زمان ضياء في انتظارك”
فيتبسم.
* وعندما سألني باهتمام عن الرسالة التي كتبناها لأسرته داعبته مازحا ً: ولماذا الاهتمام بهذه الرسالة بالذات؟ وأنت فيك بال تسأل عن الرسالة الآن؟.. فكان يتبسم بين دموعه.
وودعنا.. وعدنا وعاد الإخوة كالأيتام.
“اللهم اجعل هذه الفرحة حجة لنا لا علينا.. وزدنا بها يقينا.. وقوي بها إيماننا حتى نعمل لدينك على ثقة منك.. ومن فضلك.. آمين”.
الوسومأدب السجون .خواطر . فرح
شاهد أيضاً
《 السيف والقلم 》 ( رحلتي مع الجماعة الإسلامية ) (10) الشيخ عاصم عبد الماجد …