كعب بن مالك .. درس في الانتماء
للشيخ
رفـــــــــاعي ســـــــــــرور
رحمه الله
صحابي من أصحاب بيعة العقبة.. لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها.. إلا غزوة تبوك..
ومعه اثنان وهما ممن شهد بدرًا.
هذا هو تاريخ كعب وصاحبيه.. والذي لم يمنعهم من الفتنة.. ولم يمنع -أيضا- من حسم الموقف معهم.
ومن البداية.. كانت مواجهة النفس والصدق معها.
«كَانَ مِنْ خبري أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ.. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عندي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الْغَزْوَةِ»([1]).
طبيعة الظروف وعناصر البلاء فيها:
«وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ».
يُرِيدُ الدِّيوَانَ.. ولكن الجهاد كان عقيدتهم وهواهم، ومن هنا كانت مسئولية كل فرد عن تجهيز نفسه لتكون مهمة التجهيز مقدمة ومعيار للرغبة الحقيقية في الغزو.. ومن هنا جاءت حادثة الأشعريين مع حادثة كعب في سورة واحدة:
{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92].
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا…} [التوبة: 118].
«وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ».
وهذه هي عناصر البلاء.. الذي يتناسب مع استحقاق الأمة للانتصار على الروم.
والبلاء ليس فقط القتال المباشر، ولكنه يبدأ بالعزم عليه وإرادته والخروج إليه.. وهي البداية الحقيقية للمعركة التي تدور رحاها في النفس.
تمامًا مثل النهر الذي جعله الله بلاءً لمن كان مع طالوت قبل دخول الحرب مع جالوت.
ويقابل عوامل الإغراء بالقعود عوامل الشدة.. حيث سماها القرآن {ساعة العسرة} [التوبة: 117].. والتي وصفها عمر بن الخطاب قائلا: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع.. حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده).
تلك هي طبيعة الظروف والبلاء الذي لابد منه.. ولكن الله قادر على رفعه إذ يواصل عمر وصف الغزوة قائلاً:
(فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عز وجل، قد عَوّدك في الدعاء خيرًا، فادعُ لنا. قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر) ([2]).
إرادة الخروج في سبيل الله:
وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لكي أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ في نفسي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جهازي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ.
والبداية النفسية لإرادة الخروج هي الحال التي يكون عليها المسلم وهو في بيته وهذا موقف لعمر بن الخطاب يكشف الإستعداد الذي يكون عليه المسلم وهي في نفس ظروف الحرب مع غسان فيقول : أتاني صاحبي عشاءً فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمرٌ عظيم فقلت ماذا أجاءت غسان قال لا )[3]
فكان عمر لايفكر وهو في بيته إلا في غسان حتى يطلبه الرجل لشيء آخر فيجيبه ” أجاءت غسان” التي لايفكر إلا في مواجهتها
ولعله من أقوى أمثلة الخروج في سبيل الله ما كان من حنظلة بن الراهب..
قال الحافظ المنذري: حنظلة.. لقب بغسيل الملائكة، لأنه كان يوم أحد جنبًا، وقد غسل أحد شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فاستشهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت الملائكة تغسله([4]).
وهذا السلوك هو الذي يحقق إرادة الخروج؛ لأن التأخير ولو لحظة عن الخروج -عند الضرورة- هو الذي يسبب القعود، وموقف كعب مثال على تلك الحقيقة.. حيث يقول: «فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وليتني فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لي ذَلِكَ».. لأنه تأخر! فلم يقدر له الخروج، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا يزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخرهم الله»([5]).
وكلمة «وليتني فعلت» تكشف الحالة النفسية لكعب.. حيث لم يرضَ عن التخلف ولم تطمئن نفسه إليه.
ويواصل كعب كشف معاناته من خلال مقارنة حالته بمن تخلف معه:
«فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطُفْتُ فِيهِمْ، أحزنني أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ».
خرج الناس رغم الظروف كما قال كعب: «كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا» ومع ذلك فما أن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، حتى قَالَ وَهْوَ جَالِسٌ في الْقَوْمِ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟».
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ في عِطْفِهِ.
وكلام الرجل يعني أن نظرة من الإنسان إلى حياته أو لحظة تردد.. قد تكون سببًا في قعوده.
فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا.
أما المعنى الذي في رد معاذ.. فهو ثقة المسلمين بعضهم في بعض وهو معالجة لنظرة كل من يؤدي ما عليه.. إلى من يبتليه الله بالتقصير فيما عليه .
فرغم وضوح الموقف وثبوت التخلف.. كان الحب والعذر، وليس الترصد والتربص.
وكل كلمة قيلت في هذا النص تساهم بصورة قوية في تحديد صورة المجتمع المسلم المقاتل الذي سينتصر على الروم، ويتحول به وجه التاريخ، وهذه الغزوة بما فيها ومن فيها هي هذا الموقف المقدر للتحول.
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأن قوله هو القول الفصل، ولم يأتِ أوانه بعد.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بلغني أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حضرني همي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذي رَأْىٍ مِنْ أهلي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ.
لما اقتربت المواجهة تهيئ كعب بالحق وعزم على الصدق.
«وَعَرَفْتُ أَنِّى لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بشيء فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ.
فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ».. الدال على الحسم الرحيم.
ثُمَّ قَالَ «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» فَقُلْتُ: بَلَى، إني وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَليَّ فِيهِ إني لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ». فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فاتبعوني، فَقَالُوا لي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ، فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يؤنبوني حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبُ نفسي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لقي هَذَا معي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَمَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العمري وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أسوة، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لي».
وبدأت التجربة والابتلاء:
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ في نفسي الأَرْضُ، فَمَا هي التي أَعْرِفُ.
فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صاحباي فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ.
رغم أنهما ممن قال رسول الله فيهم: «لعل الله اطلع على هذه العصابة من أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.. أو: فقد وجبت لكم الجنة» ورغم أن كعب من أصحاب بيعة الرضوان وهو كما قال قومه له: «وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا» فالحسم مع الجميع هو الذي يحفظ للجماعة هيبتها وسلطانها، وهو الذي يحمي ذوي السبق فيها من غرور النفس.
«وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ في الأَسْوَاقِ، وَلاَ يكلمني أَحَدٌ…
وَآتِى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهْوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأَقُولُ في نفسي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَىَّ أَمْ لاَ! ثُمَّ أُصَلِّى قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صلاتي أَقْبَلَ إِلَيَّ».
عبارة تبين الرحمة والعطف الذي كان يحمله رسول الله في قلبه لكعب.
«وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّى».
حسمًا للموقف التربوي واستعدادًا لتلقي حكم الله فيه.
لقد كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كافيًا لجعل كعب يتحمل جفوة الناس.
«حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ».
تسور لأنه يعلم أنه لو طرق الباب لن يفتح له.
«وَهْوَ ابْنُ عَمِّى وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ»..
مما يشير إلى موقف الجماعة في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلا بقية هنا لقبلية أو عصبية أو قرابة.
«فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ»..
كان من الممكن اعتبار رد السلام واجب. ولكنه خشي أن يكون في ذلك أثر على الالتزام بأمر رسول الله.
فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، هَلْ تعلمني أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ. فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَفَاضَتْ عيناي وَتَوَلَّيْتُ… حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ».
يريد كلمة يطمئن بها على موقفه وشهادة له بحب الله ورسوله.. لكنه لم يسمعها ففاضت عيناه.
ولما تضمنت سورة التوبة قصة كعب وتوبته.. تفاعل كعب معها وعاش معانيها وتمثل ألفاظها.
«فَفَاضَتْ عيناي وَتَوَلَّيْتُ» نفس تعبير القرآن في سورة التوبة في وصف الأشعريين الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم، والتي جاء فيها ذكر التوبة على كعب وصاحبيه: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ } (92).
مما يكشف مدى تأثر كعب بموقفهم.. باعتباره الموقف المقابل له حيث
قال « لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ» ولم يخرج.. وكان الأشعريون.. لا يجدون ما يحملون عليه.. وخرجوا!!
«حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ».
عاد كعب من حيث أتى؛ لأن أبا قتادة لن يفتح له ليخرج من الباب،
إن انصهار الجماعة في الانتماء لم تكن فيه أي شائبة.. وإثبات هذه الحقيقة يدل على المستوى الذي يعجز معه الأعداء في اختراقها، وأخذ واحد منها.
ومن هنا.. فشلت محاولة الروم اختراق الجماعة برسالة ملك غسان إلى كعب التي ذكرها بعد حادثة ابن عمه مباشرة.. فيقول:
«قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نبطي مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جاءني دَفَعَ إِلَيّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ».
تحليل الرسالة:
كِتَاب من ملك غسان إلى رجل من المسلمين…
«أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بلغني أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ».
وهذه بداية الكذب.. لأن كعب كان يشعر بمدي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له.. كما قال: فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صلاتي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّى.
ولو يعلم هذا الملك الكافر هذه الحالة الوجدانية لما بعث الرسالة أصلًا.
«وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ».
عبارة خبيثة أخري.. من أين يأتي الهوان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر حتى يدخل كعب في الصلاة لينظر إليه.
والرسالة تدل على دقة وقت التدخل.. الدال على دقة المتابعة ودقة المدخل إلى النفس.. من خلال حب الذات والكرامة والمخاطبة بالأسلوب المناسب المؤثر.
«فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك».
وهكذا يحوم الملك الذئب حول الجماعة المسلمة لينال منها فردًا ظنه شاة قاصية.
وهكذا يريد ملك غسان بالكذب أن يعلم كعب مدى انشغاله به وقلقه عليه والرغبة في مواساته.
ولكن هذا الكذب المفضوح الذي لا يصدقه أحد.. قد يقع في قلب المفتون ؛ لأن الفتنة حالة قلبية وليست حالة عقلية.
وهكذا يقول ويفعل كل من يريد فتنة أحد من المسلمين عن دينه يتحدث إليه وهو «ملك» بلغة الصداقة الشخصية، و يستقبله ليراه جميع الناس وهو يفعل ذلك.. إنها الفتنة عن الدين التي تتطلب ذلك وأكثر.
ومع فتنة كعب تكون فتنة المسلمين.. لأن الملك كان يريد إحداث سابقة للتراجع عن هذا الدين، وأن يعرف المسلمون أن أحدهم لحق بالأعداء وهذا يكفي!!
فإذا تكررت صارت ظاهرة .. مما ينبه إلى احتفاء الجاهلية بتلك البدايات.
وكل المحاولات الجاهلية تقوم على فكرة فصل الفرد عن الجماعة.. من خلال أي زاوية يرغب فيها.. حتى ولو كانت رغبة مشروعة في ذاتها.. مثلما عرضت قريش على عثمان الطواف حول البيت ضمن أحداث معاهدة الحديبية([6]).
فعندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، وبعثه إلى أشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب، وأنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت ومعظماً لحرمته.
فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها.. لما لم ينفع الإغراء .. كان الاحتباس.. فالأمر عندهم هو الفتنة أو الحبس.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن عثمان بن عفان قد قتل.
وكما يقف الفرد موقف الانتماء للجماعة تقف الجماعة موقف الدفاع عن الفرد.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -حين بلغه أن عثمان قد قتل-: «لا نبرح حتى نناجز القوم» فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان كعب من أصحابها.
فما كان لكعب أن يتأثر برسالة حقيرة بعد أن عاش أحداث البيعة.. وكيف كان موقف عثمان وكان موقف الجماعة من أجل عثمان.
وكما تكون المحاولات باختطاف فرد من الجماعة تكون كذلك بإحداث أي شرخ في كيانها.. ولو بصورة خفية.
كما حاولت الفرس في معاهدتهم مع المسلمين في معركة القادسية إنشاء شرخ في بناء موقفهم السياسي فاتفق مفاوض الفرس مع المفاوض المسلم على معاهدة الصلح، وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي تم فيه عقد هذا الصلح، ثم جاء مفاوض آخر فوافق مفاوض الفرس على المعاهدة وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي جاء فيه المفاوض الثاني فرفض المفاوض المسلم أن يكون بدء المعاهدة من اليوم، بل من الأمس كما حدد ذلك أخوه السابق عليه.
وبذلك تتحقق وحدة الموقف وتفشل خطة الفرس في التفريق بين المفاوضين المسلمين حتى ولو بفارق يوم فاوض عليه أخوه من قبل، وهذا اليوم لا يعني واقعيًّا وعمليًّا أي شيء.. ولكنه يعني من الناحية المبدئية كل شيء، وهكذا يجب أن يكون الانتباه التام أمام خبث الجاهلية..
والملاحظة الخطيرة في توقيت الرسالة.. أنها جاءت بعد هزيمة الروم في غزوة تبوك، وملك غسان نصراني عربي حليف للروم.
لقد قام الروم بتحليل نتائج هزيمتهم أمام المسلمين.. وانتهت مراكزهم البحثية إلى أن المسلمين ينتصرون باجتماعهم على طاعة نبيهم واعتصامهم بدينهم.
فلتبدأ الخطة المعادية بعد الهزيمة مباشرة وفورًا.. فلا وقت يضيع إذا كان العمل هو محاولة الفتنة عن الإسلام واختراق المسلمين.
كما أن الرسالة تكشف بصورة تاريخية موقف نصارى العرب من الإسلام والمسلمين أمام أعدائهم.
فمنذ رسالة ملك غسان كان موقف نصارى العرب الثابت.. هو الخيانة والعمالة([7])..
جاء النبطي ليسأل عن كعب وهو في حالته الاستثنائية.
ألم يكن من الضروري -أمنيًّا- تتبع النبطي ومعرفة غرضه من طلب كعب.
لم يحدث ذلك، بل دلوه بأنفسهم عليه وتركوه له.. وتفسير ذلك أن أمن الدولة الإسلامية قائم على الانتماء الصادق لكل أبنائها واستحالة اختراق الأمة حتى من خلال فرد واحد منها؛ ولذلك لم يذكر السياق أي كلمة تكلم بها كعب مع النبطي.
«فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ».
لم يرد على النبطي، وكأنه لم يسمع أو يقرأ شيئًا.. وهذا الموقف يجب تفسيره.
فالموقف الصحيح.. ألا يقترب من خاطر كعب مثل هذه الأفكار، حتى ولو بالتعبير عن الرفض، فكان موقف كعب أبعد حتى من هذا التعبير، فلم يقل غير الكلمة التي تدل على التفسير الحقيقي للموقف: «وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاَءِ».
ليس إلا ذلك، و الخروج عن هذا التفسير هو الذي يفتح باب الفتنة وخواطرها.
لا تفكر في الموقف ولا ترد فيه بكلمة.. لأن الأعداء لا يريدون منك إلا لحظة تفكير، فلا تعطها لهم.. لا تقل كلمة وافعل مثلما فعل كعب؛ لأن الأعداء لا يريدون منك إلا الكلمة التي يبدءون بها معك حوار الشيطان وخطواته.
«حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صاحبي مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لامرأتي: الحقي بِأَهْلِكِ فتكوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ في هَذَا الأَمْرِ».
وبعد جَفْوَةِ النَّاسِ، وإغراء الملوك، وتَسَوَّرْ الجِدَارَ ليسمع ولو كلمة.. يأتي الأمر باعتزال الزوجة..
إلى هذا الحد.. حتى الزوجة !!
ولكن الله سبحانه هو الذي يقضي.. فأمر كعب زوجته أن تذهب إلى أهلها، أما الصحابيان اللذان تخلفا مع كعب فقد طلبا من رسول الله بقاء زوجاتهما في البيت لخدمتهما، فأذن لهما دون معاشرتهن.
وإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقاء الزوجات دون معاشرة يعني الحسم الرحيم.. وهو الموقف المتجانس مع المنهج العام للمعالجة، كما أنه يعني أن مشاعر العلاقة الاجتماعية الكامنة في كيان الإنسان بطبعه الاجتماعي لابد أن تخضع لمقتضيات الدعوة.
فمقاطعة المسلمين لكعب تركت له فرصة.. لتتوجه تلك المشاعر نحو الزوجة وتتكثف فيها.. كمقدمة للمقاطعة الكاملة حتى مع الزوجة.
وتوجه الإنسان بكل مشاعره نحو زوجته في حال الانفصال عن المجتمع تستوجب التنبه إلى خطر هذه الطبيعة التي قد تحدث بغير انتباه لها.. ويكون الركون إلى الزوجة.
وقد تضمن موقف مقاطعة الزوجات قاعدة تنظيمية مهمة في تحديد العلاقة بين الأسرة والجماعة من خلال ولاء الرجل للجماعة وقوامته على زوجته..
فحينما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقاطع المسلمون كعبًا أصدر أمره إلى المسلمين بمقاطعته.. لكن حين أراد صلى الله عليه وسلم أن تقاطعه زوجته لم يأمرها هي بذلك.. بل أمره هو أن يقاطعها.
فللجماعة حقها.. وللقوامة حقها.. وهذا هو الإحكام المنهجي الكامل.
التوبة ونهاية الابتلاء:
ثم تنزل التوبة ويرجّ الفرح أرجاء المدينة، ويسارع الجميع إلى البشرى بها إلى كعب فيقول:
«سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ. قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ».
مدة محسوبة باليوم والساعة.. فلا يبدأ يوم بعد المدة المحددة إلا بالتوبة.
«فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صاحبي مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ».
الذين كانوا لا يتكلمون معه.. يتسارعون في إبلاغه بالتوبة:
رجل دفعه حبه لأخيه كعب أن يصرخ من فوق جبل، وآخر يركب الفرس.
«فَلَمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يبشرني نَزَعْتُ لَهُ ثوبيّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا».
ورغم أنه لم يكن يملك إلا ثوبان ومع ذلك قال القائل في البداية: «حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ في عِطْفِهِ».. وبرداه يعني: الرداء والإزار.مما يدل على حساسيتهم تجاه متاع الحياة الدنيا!!
«وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فيتلقاني النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ».
فرحت الجماعة بتوبة الله على أخيهم وحبيبهم.. الذي كانوا لا يستطيعون الكلام معه، وهم الآن يتلقوه «فَوْجًا فَوْجًا»، وبعد الجفاء والجفاف تفجرت ينابيع الحب والفرح.
لقد اكتملت التجربة التربوية بلا زيادة أو نقصان؛ لأنها لم تنتهِ حتى التزمت الأمة بحكم الله في كعب.. فتمت مقاطعة المسلمين بصورة دقيقة للغاية، ويدل على ذلك موقف ابن عم كعب ثم مقاطعة كعب لزوجته، فيعبر كعب عن حالته كما عبر القرآن تمامًا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].
ولا يكون تفسير للآية إلا ممن مروا بالتجربة ولذلك يقول كعب:
«فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ التي ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَك وَتَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نفسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رحبت » نزلت التوبة
ولكن قول امرأة هلال بن أمية يزيد الأمر تفسيرًا:
فعندما جاء الأمر إلى هلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك.. جاءت امرأة ٍ هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك. فقالت: إنه -والله- ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. ضاقت عليهم أنفسهم.. ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.. فعندئذ نزل الوحي.
وهذه هي قاعدة الانتماء.. اليقين أنه لا ملجأ للمؤمن إلا إلى الله، ولا سبيل للمؤمن إلا الجماعة
ومن آيات السورة والأحاديث الواردة تحددت المعالجة وكان المنهج هو:
أحكام الشريعة وحب الجماعة:
كانت معالجة قضية كعب بأحكام شرعية.. وكان نجاح المعالجة بحب الجماعة.
في البداية يفوّض رسول الله أمر كعب إلى الله: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ»..
وكانت المقاطعة أول أحكام المعالجة الشرعية، ولكن كعب يقول: وَآتِى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أُصَلِّى قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ.. فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صلاتي أَقْبَلَ إِلَىَّ -رحمة وعطفًا- وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّى -حسما وتربية واستعدادا لتلقي حكم الله في كعب-.
وفي النهاية.. يصل كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
«لَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: وَهَوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بَخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ. قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَاَ رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، حَتَّى يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وعندما يبرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السرور بعد نزول توبة الله على كعب ندرك أن مادة الحب الجامعة لكل أفراد الجماعة هي الحرز الأساسي للجميع.
ومع كل ما سبق تبقى حقيقة مهمة في الحرز من الفتنة.. وهي الخوف منها وعدم اطمئنان الإنسان إلى نفسه. ومن هنا كان قول كعب في آخر القصة:
«وإني لأَرْجُو أَنْ يحفظني اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ».
فيما بقي.. بعد كل هذا التاريخ.. بيعة العقبة وبعد نزول الآيات بالتوبة عليه إلى قيام الساعة.. يرجو الله أن يحفظه فيما بقيَ.
ففيما بقيَ.. هي المسافة التي يضع المسلم عينه عليها.. هذا هو الوقت الحرج.
وكانت العبارة هي الكلمة الأخيرة في القصة.. وهي كذلك الحقيقة النهائية في المضمون.
فإذا لم تكن العين على ما يتبقى من العمر.. وكانت على ما مضى من تاريخ الفرد وسابق عمله ضاع الدين وضاع العمل
من أجل ذلك يجب أن يبقى رجاء كعب هو رجاء الجميع.. «وإني لأَرْجُو أَنْ يحفظني اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ».
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
([1]) القصة بكاملها وردت في صحيح البخاري، كتاب التوبة، باب حديث كعب بن مالك وقول الله عز وجل: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} ح4156، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ ح7192.
([3]) الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم – (1 / 32)
([4]) إتحاف الخيرة المهرة ح2813.
([7]) مثل المعلم يعقوب في الحملة الفرنسية وبطرس غالي في الاحتلال البريطاني.